كثيراً ما ينظر المراقبون للصحافة الأميركية والمتتبعين لاهتماماتها وتطورها، إلى فترة السبعينات من القرن الماضي، بحنين بالغ كـ"حقبة ذهبية" للسلطة الرابعة الأميركية لدورها الفاعل في ممارسة الرقابة على الحكومة وكشفها للعديد من الفضائح التي هزت الحياة السياسية. فالجميع يذكر فضيحة "واتر جيت" وكيف أماطت الصحافة الأميركية، عبر صحيفة "واشنطن بوست"، اللثام عن تفاصيل فضحية زلزلت أركان إدارة الرئيس "نيكسون" ودفعته إلى تقديم استقالته في مشهد مذلٍ، تهرباً من احتمال إدانته. ولم تكن فضيحة "واتر جيت" الوحيدة التي تم كشفها للرأي العام، بل كانت فترة السبعينات حافلة بفضائح تورط فيها رجال السياسة والأعمال ممن ضلعوا في أنشطة الغش والتدليس في دولة يفترض أنها أكبر مدافع عن قيم الديمقراطية والشفافية في العالم. وفي كل ذلك اضطلعت الصحافة، أو السلطة الرابعة، بدور مشهود في تسليط سيف الرقابة وقطع رؤوس المتورطين من خلال كشفهم أمام مجتمع حيوي لا يرحم ولا يتنازل عن حقوقه المدنية والضمانات التي نص عليها الدستور الأميركي. بيد أن العصر المتألق للصحافة الأميركية بدأ يخفت ويتلاشى إشعاعه، كما يوضح الصحفي الأميركي "مايكل كوكبورن"، المعروف بمشاكسته للمواقف الرسمية، في كتابه المعنون "نهاية الزمن: موت السلطة الرابعة". فالمؤلف ينعى وسائل الإعلام الأميركية، مركزاً اهتمامه على الصحافة المكتوبة، ومشيراً إلى التدهور الذي أصابها من جراء تدني سقف الحرية والجرأة في تغطية المواضيع الشائكة، ليس بالمعنى السياسي كما هو الواقع في دول العالم الثالث، بل بمعنى سيطرة أصحاب المصالح الاقتصادية والنخب الاجتماعية وارتهان الصحافة لتلك المصالح. يبدأ المؤلف بالإشارة إلى تصريح أدلت به "كاثرين جراهام" ناشرة "واشنطن بوست"، بعد أسابيع قليلة فقط من استقالة "نيكسون" عام 1974، حذرت فيه من مبالغة الصحافة في تدخلها في الحياة السياسية. وبالنسبة "لكوكبورن" والعديدين غيره من المهتمين بتوجهات الصحافة الأميركية، كان ذلك التصريح بمثابة البداية غير السعيدة للسلطة الرابعة في أميركا. ولأن البداية تكون خجولة في العادة، فإن ما تلا ذلك كان أفدح بعد أن وصلت الصحافة الأميركية إلى لعب دور المبرر لحرب الرئيس بوش على العراق وانساقت وراء رواية البيت الأبيض بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية التي تثبت لاحقاً عدم وجودها. ويرى الكاتب أن تهافت الصحافة على اتباع الخط الرسمي لم يبدأ مع هجمات 11 سبتمبر، بل ظهر لأول مرة مع تنامي التيار المحافظ في أميركا وقدوم إدارة الرئيس "ريجان" ليصل الذروة مع الرئيس بوش وجماعة المحافظين الجدد والمراسلين المرافقين للجيش الأميركي في العراق. لكن السؤال الذي يطرحه "كوكبورن"، وغيره من المراقبين، هو لماذا هذا التراجع في دور السلطة الرابعة وتنازلها عن بعض أدوارها بينما لا يوجد قمع أو تضييق على الصحف والمراسلين في أميركا؟ إذا كان السقف المتدني للحريات مفهوم في دول أخرى اعتادت التعامل مع الصحافة كأداة دعائية لتدبيج الافتتاحيات المليئة بعبارات الإطراء والإشادة بالحكومات والأنظمة، فالأمر يبقى مستغرباً في بلد يفتخر بقيمه الديمقراطية. رغم أن الكاتب ينوه إلى بعض الأمثلة على الضغوط التي تمارس أحياناً على الصحافة الأميركية من قبل جهات رسمية، إلا أنها تظل حسب المؤلف استثناءات وليست القاعدة. فالمعروف أن الإعلام مستقل، أي تديره شركات ومملوك لهيئات وأفراد لا تستطيع الحكومة التدخل في أعمالها. لكن كقاعدة عامة، يقول المؤلف، تستطيع المؤسسة السياسية الأميركية الاعتماد على الترويض الذاتي للصحافة لتتحول إلى "كلب مدرب جيداً يقوم بقفزات بهلوانية حتى من دون فرقعة السياط" (حسب عبارة جورج أرويل). ويكتب "كوكبورن" في هذا الصدد عن "نيويورك تايمز" في عهد رئيس تحريرها السابق "إبرهام روزنثال" قائلاً "إن المراقبة في أغلبها ليست عملية مباشرة، فكل محرر ومراسل توجد بداخله بوصلة تنبهه في أقل من ثانية إلى آراء ومواقف رؤسائه". وبهذا المعنى يتعلم الصحفيون في أميركا ما هو متوقع منهم في تغطية الأخبار وأسلوب معالجتها. وبالنسبة للذين يودون الصعود والترقي، عليهم أن يتأقلموا مع أجندات الرؤساء، سواء تلك المكشوفة أو المضمرة. ويستشهد المؤلف بآراء صحفيين عملوا داخل المؤسسة الإعلامية الرسمية ليؤكد مدى ارتهان صناعة الأخبار للأجندات المختلفة. ويشير إلى أحد المنتجين السابقين لبرنامج "ستون دقيقة" الشهير هو "تشارلز لويس" الذي قال "إن وسائل الإعلام العاملة في قطاع الأخبار تتبنى ذات القيم التي تتبناها النخبة، والصحفيون يطمحون دائماً إلى استقطاب المشاهدين من النخبة ونيل رضاهم. لذا ينتمون ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً إلى الطبقة التي يغطون أخبارها". ويدلل "كوكبورن" على الانحياز الاجتماعي والاقتصادي للإعلاميين بقصة الصحفي "دايان سوير" الذي عرض في أحد برامجه نموذج امرأة أميركية تضطر للعمل بطريقة غير قانونية في مكانين مختلفين لتتمكن من تسديد فواتير الرعاية الاجتماعية لصالح أبنائها، حيث انتقدها وتساءل عن سبب إنجاب الأبناء إذا لم يكن الإنسان قادراً على تحمل رعايتهم! لكن "سوير" الذي ألقى موعظة أمام الأم المخالفة، نسي أن ما يكسبه في اليوم يعادل تقريباً ما تكسبه هي في عام كامل! ورغم الصورة القاتمة التي رسمها المؤلف للصحافة الأميركية، فإنه فضل أن يختم كتابه بنبرة تفاؤلية، معتبراً أن التنوع الذي يشهده الواقع الإعلامي الأميركي يفتح آفاقاً جديدة. ويشير إلى الثورة التي أحدثتها الإنترنت والكوة التي فتحتها في جدار المؤسسة الرسمية، بعد أن أتاحت فرصة للمنابر المعارضة في التعبير عن رأيها وإطلاع الأميركيين على الحقائق الغائبة. زهير الكساب الكتاب: نهاية الزمن: موت السلطة الرابعة المؤلف: مايكل كوكبورن الناشر: أي.كي بريس تاريخ النشر: 2007