منذ قيام الدولة التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك، لم تدخل قصر الرئاسة سيدة مُحجّبة. ولكن ابتداءً من هذا الأسبوع تغيّر الوضع. إن "ست الستات" أو "خير النساء" ليس لقباً لزوجة رئيس الجمهورية الجديد عبدالله جول، ولكنه اسمها الحقيقي. هذا الأسبوع تدخل بملابسها الإسلامية المحتشمة إلى القصر الجمهوري لتكون سيدة القصر المُحجّبة. يتجاوز هذا الأمر ما هو رمزي إلى ما هو واقعي. صحيح أن ولادة الجمهورية الجديدة لم تكن يسيرة، وصحيح أنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة من الداخل والخارج، إلا أن الشعب التركي قال كلمته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي حملت حزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الحكومة رجب طيّب أردوغان إلى السلطة بأكثرية ساحقة. المصدر الأساس للتحديات الداخلية هو الجيش الذي يعتبر نفسه حامي العلمانية الأتاتوركية. ولأن الرئيس أردوغان يعرف ذلك فقد دعا إلى الوحدة بعد انتخاب جول رئيساً للجمهورية. أما المصدر الأساس للتحديات الخارجية فهو أوروبا التي لم تقفل الباب في وجه انضمام تركيا إليها، ولم تفتحه بعد. لقد حسمت تركيا موضوع هويتها، وهي الإسلام. فكيف ومتى ستحسم أوروبا موضوع التعامل مع تطلّع تركيا المسلمة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي؟ هنا لابد من الإشارة إلى "المصادفة" التالية: فالبابا بنديكتوس السادس عشر لم يكد ينهي زيارته التاريخية إلى تركيا من حيث أعلن تأييده لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، حتى صدر عن الاتحاد نفسه بيان غير متوقع يقضي بتجميد المباحثات الأوروبية- التركية حول شروط الانضمام. ولم تكد تركيا تتلقى هذا النبأ غير السار، حتى توجه إلى الفاتيكان بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية كريستو دولوس في أول زيارة له إلى عاصمة الكثلكة. وبين الزيارتين: زيارة البابا إلى تركيا وزيارة كريستو دولوس إلى الفاتيكان، ثمة قاسم مشترك هو القضية القبرصية. ذلك أن اليونان لا تزال على خلاف مع تركيا حول قبرص منذ عام 1974 عندما نزلت القوات التركية في شمال الجزيرة المقسّمة إلى دولتين ولا تزال فيها حتى اليوم. وتعارض تركيا الطلب الأوروبي بالاعتراف بالجزء اليوناني من الجزيرة كشرط مسبق لمواصلة المفاوضات معها حول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وذلك بحجة أن قبرص -اليونانية- أصبحت عضواً في الاتحاد، الأمر الذي تعارضه تركيا بشدة. يستطيع البابا بنديكتوس السادس عشر أن يقول الآن إنه -والكنيسة الكاثوليكية- بريء من أي مسؤولية تجاه الموقف الأوروبي السلبي من تركيا. وبالتالي فإنه لا يحمّل -أو لم يعد يحمّل- العلاقات الإسلامية- المسيحية وزر الموقف الأوروبي السلبي. طبعاً لم يغيّر البابا موقفه الاستراتيجي من ضرورة إعادة أوروبا إلى المسيحية، وإعادة المسيحية إلى أوروبا، ولكنه آثر بذكاء وحكمة ألا يدمّي أنامله بنزع أشواك قضية الانضمام التركي، تاركاً للأوروبيين أنفسهم أن يقوموا بهذه المهمة المؤلمة. وهو ما قامت به أوروبا بالفعل من خلال فرض الشرط التعجيزي على تركيا بشأن القضية القبرصية، وقبل ذلك من خلال الطعن الدائم والمستمر بسجل تركيا في ملف حقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية والثقافية. وفي الواقع فإن احترام هذه الحقوق الدينية وخاصة للمسيحيين ولليهود ليس مِنّة من الدولة، وهو ليس ولا يجوز أن يكون شكلاً من أشكال المقايضة مع أوروبا لتسهيل انضمام تركيا إليها، ولكن هذا الاحترام هو ركن من أركان العقيدة الإسلامية وواجب ديني يفرضه الإسلام على أولي الأمر وعلى المجتمع. وبالتالي فإن ممارسة الأقليات غير الإسلامية في المجتمعات الإسلامية لحقوقها كاملة لا تخضع، ويجب ألا تخضع، لأي نوع من أنواع المساومات السياسية، لأنها حقوق مكتسبة ومكرسة في الشريعة الإسلامية ذاتها. وما على تركيا سوى الالتزام بما تنص عليه هذه الشريعة من حقوق. ولاشك في أنه مما ساعد على فك الارتباط بين البابا والموقف الأوروبي من تركيا المبادرة التي قام بها البابا بمشاركة مفتي تركيا بالصلاة في المسجد الأزرق، وهو أكبر وأهم مساجد إسطنبول على الإطلاق. ولاشك في أن هذه المبادرة ساعدت على طيّ الصفحة الملطخة بالتشويه التي فتحتها محاضرته في ألمانيا قبل عدة أشهر وما أثارته تلك المحاضرة من ردود فعل حادة في العالم الإسلامي. ففي ألمانيا خاصة، وفي أوروبا عامة هناك مشكلة. ظاهرياً يبدو أن الإسلام هو سببها. فالمسلمون يزدادون عدداً من بوابتين: الهجرة والتوالد. والأوروبيون يتناقصون عدداً من بوابة انخفاض الإنجاب. حتى أن عدد الوفيات أصبح يزيد في بعض الدول مثل ألمانيا عن عدد المواليد. هذا من حيث الشكل. أما من حيث الجوهر فإن المسلمين الأوروبيين يزدادون تعلقاً بالدين. والمسيحيون الأوروبيون يزدادون تخلياً عنه. وثمة رقم مؤشر على ذلك. ففي ألمانيا حيث توجد جالية إسلامية كبيرة من أصول تركية، تمّ بناء 18 مسجداً بين عامي 2004 و2006. وبذلك ارتفع عدد المساجد فيها إلى 159. ويجري في الوقت الحاضر العمل على بناء 128 مسجداً جديداً. ما كان للمسلمين الأتراك -الألمان أن يبادروا إلى بناء كل هذه المساجد لولا الحاجة إليها. وتتمثل هذه الحاجة في عمارة المساجد بالمصلّين على مدى أيام الأسبوع وخاصة أيام الجمعة والأعياد الدينية. وبالمقابل تبدو الصورة عكسية لدى الألمان و الأوروبيين المسيحيين. ففي منطقة "أيسن" الألمانية -مسقط رأس البابا بنديكتوس السادس عشر- وهي من المناطق الكبيرة والكثيفة السكان في ألمانيا، توجد 350 كنيسة. ولكن نظراً لعدم الإقبال على حضور القداديس الدينية فإن أبرشية المنطقة قرّرت إقفال 96 كنيسة منها، وتحويلها إلى استخدامات ثقافية وفنية عامة. وقد حضرت شخصياً في أبرشية هامبورغ حفلة موسيقية في مبنى كان قبل ذلك كاتدرائية كبيرة، ثم أصبحت معرضاً للنشاطات الأدبية والمعارض الفنية. هذه الظاهرة بشقّيها الإسلامي الانفلاتي من جهة، والمسيحي الانحساري من جهة ثانية، ترسم علامات استفهام كبيرة ليس في ألمانيا وحدها حيث الجالية التركية هي الجالية الإسلامية الكبرى، ولكن في معظم الدول الأوروبية الأخرى حول عودة الدين من البوابة الإسلامية إلى أوروبا. ومن هنا يمكن فهم قلق البابا الحالي، ومن قبله البابا يوحنا بولس الثاني. ومن هنا يمكن أيضاً فهم الشعار الفاتيكاني الواضح بإعادة أوروبا إلى المسيحية وبإعادة المسيحية إلى أوروبا. وهو شعار يزداد قوة بعد تكريس إسلامية الهوية التركية في مؤسساتها الدستورية المختلفة، البرلمان، والحكومة، ورئاسة الدولة. لقد حاول البابا الراحل أن يقنع اللجنة الأوروبية التي عملت على وضع مشروع الدستور الأوروبي الموحد بإدراج نص يؤكد على موقع المسيحية في الهوية الأوروبية.. بل إنه تمنى لو يشار على الأقل إلى المسيحية على أنها مكوّن من مكوّنات الثقافة الأوروبية. ولكن اللجنة برئاسة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان لم تستجب لطلبه. فمات وفي قلبه غصة. ويحاول البابا الحالي أن يبدّد هذه الغصة المؤلمة. فكان شعاره بالعودة المشتركة للمسيحية ولأوروبا. حتى أنه خلال لقائه في الفاتيكان ببطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية "كريستو دولوس"، قال البابا: "إن أوروبا لا يمكن أن تكون واقعاً اقتصادياً على وجه الحصر. الكاثوليك والأرثوذكس مدعوون إلى تقديم مساهمتهم الثقافية وخصوصاً الروحية. عليهم في الواقع واجب الدفاع عن الجذور المسيحية للقارة. من الضروري تطوير التعاون بين المسيحيين في كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وذلك للرد على الأخطار الجديدة التي تواجه الإيمان المسيحي، وهي العلمانية المتزايدة والنسبية والعدمية". غير أن تحقيق ذلك لا يزال بعيد المنال. فالأوروبيون -وخاصة في فرنسا وألمانيا، وبعد معاناتهم الطويلة من سلسلة الحروب الدينية، اعتمدوا العلمنة بمعنى فصل الدين عن الدولة، أساساً لحياتهم ولأنظمتهم السياسية ولبرامجهم التربوية والثقافية. ولذلك فهم في الوقت الذي يتمنعون فيه عن التجاوب مع نداءات الفاتيكان، لا يخفون قلقهم من تنامي الحضور الديني الإسلامي وسط مجتمعاتهم العلمانية. وذلك ليس كرهاً بالإسلام -وهم لا يعرفونه ولكنهم يعرفون فقط سلوك بعض المسلمين المتطرفين الذين يسيئون التعريف بحقيقة الإسلام عقيدة وشرعة ومنهاج حياة- ولكن رفضاً للدين من حيث المبدأ. لا يبدي الأوروبيون كثير اهتمام بالكنائس المغلقة. ولكنهم يبدون قلقاً يصل إلى درجة الخوف من المساجد التي ترتفع مآذنها وتعلو قببها. وهم لا يجدون الحل في العودة إلى الكنيسة، ولكنهم وتمسكاً منهم بالعلمانية التي ارتضوها نظام حياة يبدون ريبة وتحسباً من ظاهرة ازدحام المساجد بالمصلّين وخاصة أيام الجمعة! فالتديّن بنظرهم يتناقض مع العلمنة. وهم لا يستطيعون منع الناس من الإيمان لأنهم يرفعون شعارات احترام الحريات العامة وبصورة خاصة حق أي إنسان في الإيمان بمن يشاء وبما يشاء. والمجتمع الذي يصل في احترامه للحقوق الفردية إلى حد قبول زواج المثليين أو بتكوين أسرة خارج مؤسسة العائلة، لا يستطيع أن يقف ضد حق الإيمان، أياً كانت صيغة هذا الإيمان أو شكله. وهنا جوهر المشكلة. وهي مشكلة ازدادت تعقيداً من خلال ربط الإسلام بالتطرف في الثقافة الشعبية الأوروبية. ويؤدي الإعلام دوراً أساسياً في إشاعة هذه الثقافة التي تقدّم قلّة من المسلمين، من خلال سوء تصرفها، المادة الخام التي توظَّف في الترويج لهذه الثقافة. وتدفع تركيا ثمن ذلك من خلال الموقف الأوروبي السلبي من طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. فقد أصبحت الأجهزة الأمنية الرسمية الأوروبية تنظر إلى المساجد وكأنها مصانع لإنتاج المتطرفين وحتى الإرهابيين. ولذلك تقوم عناصر هذه الأجهزة بمراقبة المساجد والمصليات (وخاصة في ألمانيا و هولندا وبريطانيا)، مراقبة دقيقة وعلى مدار الساعة. في الإسلام، كما يقول القرآن الكريم "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"، واحترام هذا المبدأ القرآني والالتزام به لا يبدد المخاوف الأوروبية من الصورة المشوّهة عن الإسلام في أوروبا فحسب، ولكنه يرفع عنه التهم الظالمة التي توجه إليه، ويوفر الاطمئنان للمسلمين الأوروبيين ويسهل اندماجهم في مجتمعاتهم، من دون أن يؤثر سلباً على إيمانهم. والسؤال الآن: هل إن تركيا وقد استقرّت على الإسلام، قادرة على أن تلعب هذا الدور الديني البنّاء في أوروبا من خلال جالياتها الكبيرة.. وربما من خلال انضمامها إلى المجموعة الأوروبية؟