في عالم الإدارة لا يوجد شيء اسمه الترقية من منصب إداري إلى منصب سيادي أو سياسي، لأن صفة "التنفيذية" هي الغالبة في هذا القطاع وما شابهه، أما في عالم السيادة والسياسة المتلاطمة يمنة ساعة ويسرة ساعة أخرى، وأقصى الاتجاهين ساعة ثالثة، فإن لنا في ذلك هذه الوقفة. المشهد أمامنا من تركيا، والنص الذي في متناول أيدينا هو مقترح لترقية "وزير" إلى رئيس دولة دون المرور بالهرم السياسي المعهود أو المعروف والذي يملك هذه الصلاحية غير المتوفر بيد الرئيس نفسه، ومع ذلك فإن البديل الديمقراطي هو الذي أقر وأجاز هذا القرار بعد ثلاث جولات انتخابية بين أعضاء البرلمان التركي، فكانت النتيجة بمباركة أول تصريح من رئيس المفوضية الأوروبية بقبول هذا الواقع المر على ألسنة سدنة العلمانية القديمة، ورحبت بذلك أوروبا باتحادها على أساس أن الخطوة قد قربت المسافة للدخول إلى تلك المظلة الأوروبية التي تسعى علمانية تركيا للفوز بها ولو بعد حين. هذه أول ترقية سياسية في تاريخ العالم الإسلامي، ليس للرأس الأوحد للدولة يد ساخنة فيها ولم يمر على التاريخ المعاصر هذا النمط من التعامل في مسألة السيادة التي تتمثل في تقبل رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وقائد الجيش هذا النوع المستحدث في تركيا لأكبر منصب على مستوى العالم الديمقراطي. وطريق الديمقراطية التركية لم يكن في يوم ما سهلاً أو في متناول من يريد، وقد كانت هذه الثمرة التي أشاد بها كل العالم ما عدا المتجمدين من دعاة العلمانية الذين غضبوا لخروج هذه اللعبة السياسية بعد أكثر من ستة عقود من احتكار التيار الأوحد للسلطة وإن تخللتها فترات متقطعة وقصيرة بين هذا وذاك. أما الوضع الحالي فكانت ضربة سياسية قاضية لم تستخدم فيها الأيدي والعضلات المفتولة، وإنما آلة البرلمان التي تعتبر اليوم من أفضل آلات الزمن في علاج الكثير من مشكلات السياسة المستعصية في العالمين العربي والإسلامي. سقطت الكرة في أيدي من يتبنون الإسلام المعتدل في ممارستهم الشخصية، والإصرار المستمر في نهج العلمانية الدستورية دون الحيد عنها قيد أنملة حتى لو كان الأمر بحاجة إلى إلغاء البسملة من ثنايا الخطابات الرسمية كما فعل الرئيس "جول" ساعة توليه الحكم مباشرة، مع إصرار سلفه أو أستاذه في ذات النهج "أربكان" الذي لم يقبل بالتنازل عن البسملة من أجل سواد عيون العلمانيين، فكانت نتيجة ذلك تراجع الأب الروحي وتقدم الابن العلماني، ولو في غلاف رقيق من الإسلام الشخصي لا علاقة له بالأصولية المحاربة. صحيح أن التجربة لا زالت في بدايتها وعيون المراقبين مركزة وبحدة على تحرك الجيش وهو أمنية قدماء العلمانيين في تركيا لأنه الوحيد الذي، كما يقال، بيده الميزان الذي قد يقلب كافة أنواع التفاؤلات في نبرة حنق تصدر من ألسنة من لا يفرق بين العلمانية السياسية في تركيا وبين موجات من الانتقام السياسي بين الأطراف المتصارعة للوصول إلى سدة الحكم، ولكن خارج عباءة الإسلام العام الذي يتحدث عنه كل تركي في المجتمع، وهو ما يريد البعض التخلص منه بأي وسيلة، ولكن كيف؟ وكأن المشكلة لدى بعض العلمانيين المتطرفين في تركيا انحشرت في لافتة مثبتة على قصر الرئاسة تقول: الحجاب ممنوع من الدخول في هذا المكان ولو كان صاحبه زوجة الرئيس. مع أن هذا الصراع قد حسمه الشعب ولكن يبدو أن الديمقراطية المرجوة في بعض أجزاء من العالم الإسلامي والعربي، لا تتيسر أمورها إلا بالتخلص منها.