لقد جاء في تقرير وزارة الخارجية الأميركية الصادر في شهر مايو 2002 حول "مشروع مستقبل العراق" أنه لا يمكن للجيش العراقي المستقبلي أن يكون امتداداً للجيش الحالي، الذي ظل أداة للديكتاتورية والاستبداد. غير أنه ساد الاعتقاد الآن بأن حل الجيش العراقي كان قراراً خاطئاً ومتناقضاً مع الخطط الأميركية السابقة لشن الحرب، إلى جانب الاعتقاد بأنه كان قراراً اتخذته شخصياً بمفردي. والصحيح أن القرار المذكور قد خضع لمراجعة مسؤولين مدنيين وعسكريين رفيعي المستوى في الحكومة الأميركية، فضلاً عن أنه كان قراراً صائباً ومبرَّراً. فبسقوط بغداد في التاسع من أبريل 2003، كان زمام الجيش العراقي قد انفرط وحُل عملياً. وهذا ما لخصه الجنرال جون أبي زيد، نائب القائد العام للقيادة المركزية للجيش، عبر بث بواسطة الفيديو للمسؤولين في واشنطن بتاريخ 17 أبريل من العام نفسه، حيث قال: "لم تعد ثمّة وحدات نظامية تابعة للجيش العراقي". ونتيجة لاختفاء وحدات الجيش العراقي النظامية تلك، فقد أصبح أي احتمال لاستخدام جيش صدام حسين في عراق ما بعد الحرب، غير وارد البتة. وعليه فقد أصبح السؤال المطروح أمام سلطة التحالف المؤقتة في بغداد عما إذا كان عليها أن تحاول استدعاء جنود ذلك الجيش، أم أن تسعى لبناء جيش جديد من العناصر المختارة من الجيش السابق، إضافة إلى تجنيد عناصر جديدة؟ وهذا الخيار الثاني هو ما رآه الجنرال أبي زيد صائباً حينها. وخلال الأسابيع العديدة التي تلت توصية الجنرال أبي زيد بالخيار الثاني هذا، كان والتر سولوكومبي، المستشار القومي للتحالف الدولي، قد انهمك في مناقشة الخيارات الممكنة مع كبار مسؤولي البنتاجون، بمن فيهم بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع وقتئذ. وكان من رأي هؤلاء استحالة استدعاء جنود الجيش السابق للخدمة، بالنظر إلى الدمار الهائل الذي طال قواعده جراء عمليات النهب والسلب التي تعرضت لها تلك القواعد أثناء وما بعد الحرب. وفوق ذلك كله، فإنه لم يكن وارداً أن تنصاع العناصر الشيعية المختارة، والغالبة على الجيش الجديد لأوامر القادة باستدعاء عناصر الجيش القديم، مع العلم بأن غالبية تلك العناصر من المسلمين السُّنة. وليس ذلك فحسب، بل لقد اتفق المسؤولون على أن فكرة استدعاء عناصر الجيش السابق هذه ستكون كارثة طالما أن ذلك الجيش ظل تجسيداً ورمزاً لعهد الاستبداد البعثي السُّني. وفي الثامن من مايو 2003، وقبل ذهابي إلى العراق، كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قد سلمني مذكرة حملت عنوان: "الموجِّهات العامة لمبادئ سياسات العراق"، أشارت تحديداً بأن يلتزم التحالف موقفاً معارضاً وثابتاً ضد عناصر نظام صدام حسين: أي حزب البعث وفدائيي صدام وغيرهم. كما جاء فيها "إن علينا التأكد من اجتثاث بقايا نظام صدام". وفي اليوم التالي مباشرة أخبرني رامسفيلد أنه بعث بنسخة من المذكرة نفسها إلى كل من مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية. وبين هذا وذاك أظهرت المشاورات التي أجراها والتر سولوكومبي مع كبار المسؤولين في واشنطن، قناعة هؤلاء بأن الخيار الوحيد الممكن، هو بناء جيش عراقي جديد، على أن يظل مفتوحاً أمام الجنود السابقين، شريطة مراجعة ملفاتهم وتدقيقها أمنياً. وعليه فقد بادر سولوكومبي إلى إصدار الأمر بتنفيذ هذه الأهداف. ومن ناحيتي أرسلت نسخة أولية من مسودة الأمر إلى رامسفيلد في التاسع من شهر مايو. وفي اليوم التالي بعثت بنسخة أخرى منها إلى "ويليام جي. هاينز"، المستشار العام لوزارة الدفاع، وكذلك إلى ولفوفيتز، وإلى دوجلاس فيث نائب وزير الدفاع للسياسات، ثم إلى الجنرال تومي فرانكس قائد القيادة المركزية، وأخيراً إلى "جي غارنر"، طالباً منهم تعليقاتهم عليها. ومن جانب آخر تواصلت مشاورات سولوكومبي مع كبار مسؤولي البنتاجون حول مسودة الأمر، بمن فيهم دوجلاس فيث. وخلال الفترة نفسها تلقى الجنرال ديفيد ماكيرنان القائد الميداني لقوات التحالف في العراق، نسخة من المسودة نفسها ووقّع عليها. وبعد أن قدمتُ تلخيصاً لرامسفيلد عن الإجراءات الخاصة بها عدة مرات، بعثت إليه بنسخة نهائية منها، بغرض الحصول على موافقته عليها في 19 أبريل. ومن ناحيته تلقى سولوكومبي تعليقات مفصلة على النسخة، حملت آراء قيادة الأركان المشتركة والمسؤولين بمكتب وزير الدفاع. وقد أجمعت تلك التعليقات على أن كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين بالوزارة، إلى جانب القادة الميدانيين، قد استوفوا مراجعة نسخة الأمر المذكور. وما من أحد من جميع هؤلاء أبدى اعتراضاً على فكرة إنشاء جيش عراقي جديد، أو على حلِّ الجهاز الأمني التابع لنظام صدام حسين. وفي الثاني والعشرين من مايو، كنتُ قد بعثت إلى الرئيس بوش، بواسطة وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، نسخة من أول تقرير أعددته منذ وصولي إلى العراق. وبالطبع فقد شمل ذلك التقرير استعراضاً شاملاً للسياسات التي اتبعناها، بما فيها تفكيك بنيات "حزب البعث" السابق. وقلت للرئيس إنني سوف أوازي هذه الخطوة، بخطوة أكثر جرأة تستهدف حل جيش صدام حسين وأجهزته الأمنية. وفي اليوم التالي مباشرة، أي في الثالث والعشرين، تلقيت مذكرة من الرئيس شكرني فيها على التقرير وقال لي فيها بالحرف الواحد "أمنحك كامل ثقتي ومساندتي". وهكذا لم يثر أي من كبار مسؤولي الإدارة أدنى اعتراض حينها على حل الجيش العراقي. وعلى رغم ما يقال اليوم، فقد أثبتت الأيام نفسها أنه كان قراراً مصيباً. فعلى رغم كل المصاعب التي تواجه الجيش العراقي الجديد المحترف اليوم، فقد أثبت أنه أكثر كفاءة وأهلاً للثقة به كقوة أمنية وطنية. وفي المقابل فلننظر إلى وحدات الشرطة التي تكثر فيها العناصر البعثية السابقة، وهي العناصر التي استدعيناها نحن لأداء الخدمة. فماذا فعلت للعراقيين سوى إثارتها لشكوك غالبيتهم وانعدام ثقتهم بها، على رغم أنها لم تستدع أصلاً إلا لحماية هؤلاء المواطنين. بول بريمير رئيس سلطة التحالف المؤقتة في العراق 2003- 2004 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"