بين دبي الحلم والطموح والتطلعات، ودبي الواقع القائم، يجد الإنسان نفسه متسائلاً عما تحقق في هذه المدينة وما لم يتحقق، على أصعدة الحياة كافة. نتوقف مطولاً للتأمل في ما كانت عليه، وما آلت إليه، وما ينتظرها في المستقبل. فهي مدينتنا وعالمنا الذي أمضينا فيه جل حياتنا، وسيظل يرافقنا ويحيط بنا حتى النهاية. لذلك نسأل عنها بمحبة كما تحنو أم على وليدها، ونبحث عن روحها التي تملأ عالمنا دفئاً وحباً. فبعد عقود وسنوات طويلة من التحول والتغيُّر، غادرت المدينة ماضيها، وهجرت الكثير من عناصر موروثها، حتى فقدت سمات شخصيتها الأولى، وهويتها المميزة، وباتت بشخصية مختلفة، وبهوية مغايرة تقريباً. فقد أصبحت بشخصيات عدة متداخلة ومتمازجة، وبعدد من الهويات المتشابكة، ما يجعل منها عالماً أقرب إلى الفنتازيا منه إلى الواقع. نعود كلما عدنا من السفر عبر مطارها، مطار دبي الذي نراه مزدحماً إلى هذا الحد، فتعقد الدهشة والغرابة ألسنتنا، وينتصب السؤال المُحيِّر: ما الذي يحدث لهذا المطار ومن ورائه المدينة؟ وأية عوالم وشعوب تتجمع في هذا المكان؟ ماذا يفعل كل هؤلاء البشر في هذه المساحة من العالم؟ وما حاجة دبي إلى استقطاب عشرات الملايين من المسافرين سنوياً (تذكر الإحصائيات أن العام 2006 شهد حوالي 28 مليون مسافر عبر مطار دبي، وتسعى إدارة المطار إلى رفع العدد ليبلغ سبعين مليوناً)، لماذا؟ وما المردود؟ وفي المقابل: ما الثمن أيضاً؟ وننظر إلى الكثير من دول العالم المتقدمة، فلا نرى كبير اهتمام بمثل هذه الأرقام، فلماذا باتت تجذبنا لغة الأرقام إلى هذا الحد، بينما هي قد لا تعبر بالضرورة عن تطور وتقدم؟ فهي أرقام لجماعات وأفراد يعبرون فضاء المدينة والبلاد، سواء أقاموا أو عبروا إلى فضاءات أخرى، لكنهم لا يتركون الأثر المرجو، بل يبقون مجرد عابرين، أو ربما يشكلون عبئاً بطريقة ما. وننظر فنرى أفراد شعوب يفترض أنهم يحملون ملامح وثقافات وهويات، ولكنهم في الواقع، وإذا ما دققنا النظر، بلا أي ملامح حقيقية. هم عابرون بكل معنى الكلمة، فلا حوار بيننا وبينهم سوى ما تمليه لحظة اللقاء، وهي لحظة قد تطول وقد تقصر، ولا ينتج عنها سوى لغة المصلحة العابرة والسريعة، وليس ذلك الحوار الذي يقرب البشر من بعضهم بعضاً، أو يخدم مصالح مشتركة عميقة. وننظر فنكتشف فجأة طبيعة هؤلاء العابرين، أقول "نكتشف" رغم أن المسألة لا تتعلق باليوم أو البارحة، بل بسنوات من استقبال أشكال ومستويات من "العمالة"، نكتشف أن الغالبية العظمى منهم ليسوا من ذوي المؤهلات العلمية والعملية، ونستغرب لماذا تأتي هذه الأعداد من هؤلاء، في الوقت الذي تركز فيه الدول الساعية إلى التنمية المتوازنة على نوعية عالية من المؤهلات. ونقول هذا دون أي ملمح للعنصرية تجاه هؤلاء البشر، ولكن بقدر من التساؤل عن الوظيفة التي يؤدونها في عملية تنمية البلاد؟ قد تصبح دبي من أكثر مدن العالم ازدحاماً، وقد تملك البرج الأعلى في العالم، أو تمتلك أغنى بورصة أسهم، أو أعلى نسبة من المستثمرين على وجه الأرض. قد يحدث ذلك كله بفضل الأموال الطائلة التي تصرف في هذه المجالات، ولكن السؤال الذي يظل عالقاً: ما الذي جناه الإنسان -مواطناً كان أم وافداً- من ذلك كله، في غياب الروح الدافئة للمدينة؟ وماذا كسبنا أمام زحف الكونكريت والحديد على المدينة وسكانها؟ ليس هذا تقدماً متوازناً. فالتطور الذي لا يرتقي بروح البشر ليس تقدماً، والتغيير الذي يهمِّش الإنسان ليس تقدماً. وليس من التقدم في شيء أن نولي الحجر والحديد رعايتنا بينما الفرد يكاد ينسحق تحت وطأة الآلة وهمجيتها. وليس من التحضّر أن نرتفع بالبنيان، فيما تتراجع الكثير من القيم الإنسانية، وتتضاءل العلاقات بين بني البشر. هل هذه هي دبي التي نريد ونحلم؟ هل هي هذه الأبنية المعزولة التي يتوزع عليها سكانها من دون أن يقول الجار لجاره: صباح الخير؟ وهل يجوز أن يكون ثمن هذا العمران هو روح الإنسان؟ هو ليس سؤالاً خاصاً بدبي، لكن دبي باتت من أكثر المدن في العالم التي تستفز مثل هذا السؤال، كونها من أكثر المدن ممارسة للقفز فوق الواقع، من أجل تحقيق حلم التقدم، لكنها بقفزها هذا قد تقودنا إلى ما لا تحمد عقباه.