لم تفقد الحكومات وزنها الاعتباري بل والمادي في صيف جاف وقائظ، بل فقدته عبر عملية تاريخية طويلة نسبياً. وتتجلى هذه الحقيقة هذا الصيف بشكل صامت، فكيف نفهم هذا الواقع المستجد؟ ربما نجرب فهما أفضل لما يجري لأنواع مختلفة من الحكومات إذا أعدنا النظر في الطريقة التي فهمنا بها الأحداث خلال العقدين الماضيين. على سبيل المثال كنا قد فهمنا انهيار الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية كنتيجة التوق للحريات العامة وللديموقراطية ولرفض الشيوعية والاستبداد والبطش. اليوم نستطيع أن نراجع هذه النظرية. فالشعب الروسي يقف خلف الرئيس بوتين بقوة. والواقع أن التأييد الذي يحظى به الرئيس بوتين تدفق بسبب نجاحه في السيطرة على الفوضى التي ضربت الدولة الروسية وأذلتها إذلالاً شديداً وعرضت الشعب الروسي لأشد صور العنف غير الرسمي فضلاً عن السرقة العلنية والفساد المستشري والإفقار التام. ومن وجهة نظر غالبية كبيرة من الروس يمكن للرئيس بوتين أن يفخر بأنه تمكن من إعادة دفع مرتبات الموظفين بعد أن توقفت الدولة عن دفعها لسنوات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وفي ظل سلفه الرئيس يلتسين! لم يقم الروس بثورة من أجل الديموقراطية إذن, رغم الآلام الشديدة التي سببها لهم نظام شمولي بالغ القسوة, ورغم جاذبية النظام الديموقراطي لكل الشعوب، على الأقل لأنه النظام الذي يقوم على حكم القانون أو على الحماية القانونية للحريات العامة. يكفينا النموذج الروسي لتأكيد الفكرة الجوهرية التي نقترحها هنا, حتى لا نضطر لاستعراض نظريات كثيرة ومتضاربة لأسباب التحول من الشيوعية للرأسمالية أو من الشمولية للديموقراطية في دول أوروبا الشرقية. فحتى في هذه الدول الأخيرة لم يكن الدافع هو الديموقراطية بقدر ما كان المسألة الاقتصادية. انهار الاتحاد السوفييتي لأسباب كثيرة بالطبع. لكن ما نعتقد أنه العامل الأهم من حيث التأثير المباشر على جموع الناس، كان هو العامل الاقتصادي. شكل الاقتصاد عامل الضغط الأهم في الحالة السوفييتية لأنها عكست أغرب ظاهرة في الاقتصادات الحديثة، وهى ما نسميه بالنمو السالب للإنتاجية, بمعنى أن إنتاج نفس قيمة المنتج من السلع والخدمات تطلب مزيداً من العمال والمواد الخام ورؤوس الأموال...الخ. ويعنى ذلك إهلاكاً شديداً للموارد البشرية والمادية. ولهذا السبب عانى الاتحاد السوفييتي من ميل طويل المدى لهبوط معدلات النمو منذ عام 1955 وحتى انهياره عام 1991، حتى وصل إلى ظاهرة النمو الكلي السالب. وأسفرت هذه الظاهرة العجيبة عن نمو سالب للسكان أيضاً, بمعنى انخفاض السكان بالأرقام المطلقة: حيث زادت معدلات الوفيات عن معدلات المواليد الجدد. رغم كل ذلك لم تكن معاناة المواطنين في الاتحاد السوفييتي في سنوات انهياره كبيرة بالقياس إلى العقود التراجيدية في حياة هذا البلد، أي العشرينات والثلاثينات, بل كانت قد تحسنت كثيراً. لكن هذه المعاناة كانت ملموسة للغاية مقارنة بالمستويات التي بدؤوا يعرفون أن الغربيين يعيشونها. وبتعبير آخر فإن الشعور بالحرمان الاقتصادي كان قد احتدم كثيراً مما دمر ما بقي من مشروعية للنظام السوفييتي. كان الموقف في العالم الغربي مختلفاً تماماً. فيما بعد الحرب العالمية الثانية كان الوضع الاقتصادي قد أشرف على الانهيار. قدم مشروع مارشال بعض المساعدة, لكن المجتمعات كلها اضطرت لجهد مضاعف لإعادة بناء ما خربته الحرب والعودة للانطلاق. وكانت المعارضة الشيوعية والاشتراكية قد وصلت إلى قمتها في غالبية دول غرب أوروبا. واضطر بلد مثل ألمانيا (الغربية) للاعتماد على العمل الشاق أو الخارق للنساء في سن الكهولة والشيخوخة حتى يعود للحياة بعد أن قتلت نسبة كبيرة من الشباب. وسريعاً ما تحسنت مستويات المعيشة وقفزت مساحة الحريات العامة لمستويات غير معروفة في البنية الديموقراطية لغرب وشمال أوروبا. ومع الوقت, لم يعد الناس يطلبون سد حاجاتهم الأساسية بل الرفاهية. وخلال ربع القرن الأخير من القرن العشرين وحتى الآن انتقل الناس من طلب الرفاهية إلى الإغراق في النزعة الاستهلاكية: أي من استهلاك الضرورة إلى الاستهلاك الفائض. وداخل هذه العملية التاريخية العجيبة، بدأت ظاهرة أكثر أهمية في فهم ما يحدث في عالم اليوم, وقد بدأت تحديداً مع عصر تاتشر في انجلترا وريجان في الولايات المتحدة. اليوم لم يعد الاستهلاك الفائض مجرد نزعة أو مرض اجتماعي, بل صار مرضاً ثقافياً غرست ميكروباته في الكيان الإنساني نفسه, وهو ما يستحق تسميته بـ"الجشع". لم يجد جرينسباوم الرئيس السابق للبنك المركزي الأميركى غير عبارة "الجشع ونهاية السياسة"، وهي عبارة خشنة عارية من كل تزويق، لكي يفسر ما يحدث من أزمات في الاقتصاد الأميركي. التحليل الاقتصادي الصرف للإشكالية المطروحة لديه باسم "الجشع" معقد ولا ننوى إزعاج القراء به. يكفينا أن نقول إن الرجل قدم في كلمة واحدة اعتذاراً عن مرض أصيل في الرأسمالية التي دافع عنها طوال حياته. النزعة الاستهلاكية والجشع ارتبطا مع الزمن (في التاريخ الأوروبي والآن في التاريخ العالمي) بتدهور وتراجع السياسة أو بما نعرفه الآن باسم "موت السياسة". ولهذا السبب يطلق البعض على عصرنا الراهن تسمية "عصر الاقتصاد". ما يهم الناس هو الاقتصاد. وقد اشتهر الرئيس السابق نيكسون بشعار "انه الاقتصاد يا غبي"، بمعنى أن الحسم في الانتخابات العامة وفي المناظرات السياسية والمناقشات حول أي قضية معقود للوضع الاقتصادي. يحيط هذا المعنى بظواهر أوسع كثيراً من الانتخابات العامة ومن انتصار هذا الحزب أو هزيمة ذاك. فالأحزاب ذاتها فقدت حتى في الديموقراطيات الناضجة قوتها وقيمتها. وصارت أغلب الأحزاب الأوروبية الرئيسية أقرب إلى الأحزاب الأميركية: أي مجرد تيارات أو منتديات لا يهتم بها أحد ولا يجتمع حولها الناس إلا بمناسبة الانتخابات العامة. لم يفقد الحزب السياسي دوره فحسب، بل فقد تماسكه الفكري والأيديولوجي أيضاً... والأهم أنه فقد دلالته بالنسبة للصراع الاجتماعي. فالحزب لم يعد يتفق بالضرورة مع قوة اجتماعية أو طبقة إلا بالمعنى الواسع للغاية. والأهم من كل ذلك, وهذا هو موضوعنا, فقدت الحكومات ذاتها الأهمية التي كانت تحظى بها في الماضي. لم تعد الحكومات في الدول الديموقراطية تلفت نظر سوى أقلية من المواطنين. ويمضي غالبية المواطنين حياتهم دون أن يحتكوا أو يهتموا بالحكومة. والأهم أن الأجيال الشابة، وهى المحرك الحقيقي لكل نشاط سياسي أو تجديد ثقافي أو أخلاقي قد انسحبت تماماً من الساحة. وبدلاً من ثورة الشباب في عقد الستينات يتجه أكثر الشباب ذكاءً ومهارة للعمل في مؤسسات وشركات الأعمال الكبيرة أو افتتاح البزنس الخاص بهم. هذه هي جذور الأزمة التي تعيشها الشعوب والحكومات في الغرب باسم "أزمة المحكومية". أما عندنا فجذور الأزمة تتفق وتختلف عنها في الغرب.