تمثل قصة حياة البرازيلي" فالدير دو سانتوس" الذي ترك الزراعة وتحول إلى سائق سيارة أجرة، تمثل من حيث الجوهر، المسار الوظيفي الجديد للعمال في مختلف أنحاء العالم. فلأول مرة في التاريخ يصبح عدد العاملين في المهن الخدمية أكبر من عدد العاملين في إنتاج الطعام، وذلك وفقاً لبيانات منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة. فحتى عام 1996 كانت نسبة العاملين في قطاع الزراعة على مستوى 42% من إجمالي العمالة العالمية، ونسبة العاملين في صناعات لها علاقة بإنتاج السلع 21%، أما العاملون في الأنشطة الخدمية فلم تتجاوز نسبتهم 37%. وحتى العام الماضي -كما جاء في تقرير لمنظمة العمل الدولية قبل أربعة أيام- كانت نسبة العاملين في الأنشطة الخدمية تبلغ 42% مقارنة بـ37% يعملون في الزراعة و22% في الصناعة. ولا يزال من المبكر الحديث عن عالم يتكون بأسره من موظفين من ذوي الياقات البيضاء، خصوصاً إذا ما عرفنا أن كثيراً من العمال الزراعيين الذين انتقلوا للعمل في المدن لم ينتقلوا خصيصاً للعمل في وظائف خدمية بقدر ما أنهم التحقوا بالوظائف التي وجدوها متاحة أمامهم، والتي تؤمن لهم بالكاد فرصة البقاء على قيد الحياة في تلك المدن. ورغم أن حياة "دو سانتوس" قد أصبحت أكثر يسراً عما كانت عليه من قبل، فإنه يتذكر حياته السابقة في مزرعة والده بنوع من الحنين قائلاً: "إنها كانت حياة متحضرة" مقارنة بالحياة التي يحياها الفقراء في شوارع المدن الكبرى. ورغم ما يقوله "سانتوس"، فإن ذلك التحول في نوعية الوظائف يمكن إذا ما تم تنظيمه وإدارته بشكل جيد، أن يتحول إلى ظاهرة إيجابية حسب رأي خبراء الاقتصاد. فهذا الانتقال، كما يقول "جريجوري كلارك" المؤرخ الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا، "يحرر البشر من سطوة الجغرافيا، وهو ما يعني أن دولة مثل سنغافورة محدودة المساحة يمكن أن تصبح غنية تماماً كدولة شاسعة المساحة مثل كندا". والحقيقة أن التطور التكنولوجي يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المنافسة الاقتصادية في مجال الخدمات بمختلف أنواعها، وهو ما قد يعرض الاقتصادات المتقدمة، مثل الاقتصاد الأميركي، لتحديات جديدة حتى مع توفيره لفرص مغرية جديدة أمام رجال الأعمال. فالتقنية في مجال الانترنت والنقل الجوي مثلاً، جعلا انتقال كثير من الخدمات عبر الحدود يتم بنفس السهولة واليسر اللذين يتم بهما انتقال كثير من السلع والبضائع. ويقول "كلارك" إن هذا التحول الجديد نحو الوظائف الخدمية لا يؤدي بالضرورة لتقليص أهمية الصناعة، وكل ما هنالك أنه بسبب الزيادة في الدخول في مناطق كثيرة من العالم، فإن جزءاً كبيراً من أصحاب هذه الدخول أصبحوا أكثر استعداداً لزيادة الإنفاق مقابل الحصول على الخدمات التي يحتاجونها. من ناحية أخرى نجد أن التطور التكنولوجي قد أدى إلى زيادة إنتاجية المصانع، وبالتالي تقليص احتياج الكثير من الصناعات لعمالة كثيفة، وهو ما أدى بالضرورة إلى تحول مزيد من العمال إلى مجال الخدمات بدءاً من السياحة وحتى الأعمال المنزلية. يقول "سانتوس" تعليقاً على ذلك: "ليس هناك شك في أن قيادة تاكسي في شوارع العاصمة البرازيلية أسهل كثيراً من العمل في الزراعة... فعندما كنت لا أزال شاباً كنت أكدح في الحقل من الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة السابعة مساءً، أي لمدة 12 ساعة يومياً... كان الأمر شاقاً حقاً، أما الآن فالمرء لا يحتاج إلى التفكير كثيراً في عمله، كما أنه ليس مضطراً لبذل جهد شاق في هذا العمل أيضاً". لا ينطبق هذا بالطبع على جميع العاملين في قطاع الخدمات في العاصمة البرازيلية.... فهناك العديدون الذين يؤدون أعمالاً شاقة ولا يحصلون على سوى أجور ضئيلة، وهو ما يعني أن هؤلاء البشر قد استبدلوا الكدح من أجل العيش في الحقول الزراعية بالكدح من أجل العيش في شوارع المدينة. والزيادة في الوظائف الخدمية تتوافق كما يبدو مع تيارات إيجابية في الاقتصاد أو في المؤشرات الاجتماعية في معظم مناطق العالم، ومنها مثلاً الصين والهند اللتان نجحتا في تخليص عشرات الملايين من مواطنيهما من أغلال الفقر... ومنها أن قطاعي البنوك والسياحة أصبحاً ينموان بسرعة في العديد من الدول النامية... ومنها أن دول الكتلة السوفييتية السابقة تعمل حالياً على الاستفادة جزئياً من الخبرة والمعرفة الفنية اللتين راكمتاهما في الحقبة الشيوعية في بعض المجالات كصناعة البرمجيات. ويقول علماء الاقتصاد عامة إنه ليس هناك ما يحول دون نمو مناطق العالم المختلفة في وقت واحد، وليس هناك ما يدعو لأن تترجم الفوائد التي تحققها منطقة إلى خسائر في منطقة أو مناطق أخرى. مع ذلك يعرب هؤلاء الاقتصاديون عن قلقهم من بعض الآثار الضارة لهذه الظاهرة، ومنها أنه في الوقت الذي تؤدي فيه التقنية وارتفاع مستويات التعليم في الدول النامية إلى زيادة الحاجة إلى الخدمات المختلفة، فإن العمال في مدينة مثل بوسطن الأميركية قد يجدون أنفسهم في منافسة مع نظرائهم الأقل أجراً في البرازيل، كما أن هؤلاء قد يجدون أنفسهم في النهاية في منافسة مع نظرائهم في بنغلاديش الأرخص أجوراً. العمال في البرازيل لا يشغلون أنفسهم بشؤون المنافسة العالمية مع غيرهم من العمال في مناطق أخرى من العالم، وإنما يحاولون بدلاً من ذلك التكيف مع الحقائق الجديدة في بيئتهم المحلية، والتركيز على الاستفادة من الفرص التي أتاحتها تلك الحقائق. مارك ترامبول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر في "كريستيان ساينس مونيتور" اندروا داوني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في العاصمة البرازيلية ساو باولو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"