قيادة المؤسسات الدولية وطرق التولية عليها وتوزيعها جغرافياً ومصادر النفوذ على قراراتها... مسائل تثار من وقت لآخر حول ديمقراطية النظام الدولي ومدى "الرشادة" في "حكومة العالم"... أما المناسبة هذه المرة فهي تجدد الحديث حول اختيار الرئيس القادم لصندوق النقد الدولي، والذي انتهت القوى الكبرى منذ أسابيع إلى تفاهم مبدئي على أن يكون الوزير الفرنسي السابق "دومينيك ستراوس كان". لكن جديد ترشيح ستراوس، ما يلاقيه الآن من معارضة شمالاً وجنوباً، حيث تتجدد شكوى البعض من الاحتكار الأوروبي لهذا المنصب، فيما يشكك آخرون في كفاءة الوزير الفرنسي. فقد طالبت مفوضية الاتحاد الأفريقي بالتخلص نهائياً من القاعدة التي تقرر احتفاظ هذا البلد أو هذه المنطقة بهذا المنصب الدولي أو ذاك، لأنها قاعدة لا تعكس وضع ميزان القوى في عالم اليوم. بينما أعلنت روسيا أنه لا يوجد في سيرة ستراوس ما يدل على امتلاكه المؤهلاتِ الفنيةَ لإدارة الصندوق، وأيدتها في ذلك البرازيل، وإلى حد ما اليابان أيضاً. وفي تساوق مثير ولافت للنظر -مع رأي موسكو- كتبت "فايننشال تايمز" البريطانية مقالاً افتتاحياً قالت فيه إنه لا أحد يستطيع التأكيد على أن ستراوس هو المرشح الأكثر أهلية في العالم، بل المؤكد أنه "أسوأ مرشح اختير بطريقة سيئة"! لكن من هو ستراوس؟ وهل تؤهله خبراته لإدارة إحدى أكبر المؤسسات المالية الدولية في العالم؟ "دومينيك ستراوس كان"، سياسي تولى حقائب وزارية في ثلاث حكومات فرنسية، وهو نائب برلماني انتخب لعضوية الجمعية الوطنية خمس مرات، علاوة على كونه أكاديمياً متميزاً مارس التدريس في عدة جامعات فرنسية. ولد ستراوس عام 1949 في "نيليي سير سين"، وبعد أن قضى جزءاً من طفولته في المغرب، عاد إلى فرنسا ليكمل تعليمه، حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، ليصبح في عام 1977 أستاذاً للاقتصاد في جامعة "نانسي2"، ثم أستاذاً في جامعة "نانتير" عام 1981، وأخيراً في جامعة "باريس5" وفي المدرسة الوطنية للإدارة عام 1984. انتخب ستراوس نائباً في البرلمان لأول مرة عام 1986، ممثلاً لدائرة "هوت- سافوا"؛ ثم أعيد انتخابه عام 1988، حيث ترأس لجنة المالية. وبعد عامين اختاره فرانسوا ميتران وزيراً للصناعة والتجارة الخارجية في حكومة "أديث كريسون"، ليحتفظ بذلك المنصب في حكومة "بيير بيريغوفوي"، وصولاً إلى الانتخابات التشريعية عام 1993، والتي هزم فيها ستراوس نفسه، لكن ستراوس عاد ليفوز عام 1995 رئيساً لبلدية "سارسل"، ثم ليستعيد مقعده النيابي خلال انتخابات عام 1997. وفي حكومة ليونال جوسبان، تقلد ستراوس حقيبة الاقتصاد والمالية، وأصبح عنصراً مهيمناً داخل الحكومة، وحقق فوزاً مريحاً في الانتخابات المحلية لعام 1998 على مستوى مقاطعة "إيل دوفرانس" (عاصمتها باريس)، لكنه قرر الاحتفاظ بمنصبه الوزاري، فآلت مسؤولية المنصب المحلي إلى أحد القادة الاشتراكيين. إلا أن ستراوس لم يلبث أن عاد الى مقعده البرلماني، إذ استقال من الحكومة في نوفمبر 1999، اثر فضيحة مالية تفجرت داخل "التعاضية الوطنية لطلبة فرنسا". حقق ستراوس لفرنسا، في أقل من ثلاث سنوات، أعلى معدل نمو لها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كما نجح في تخفيض البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1969، ورفع ضريبة القيمة المضافة على قطاع العقارات، مما ساهم في تحسين حسابات الميزانية العامة، وسمح لفرنسا بالانضمام إلى منطقة اليورو. وشارك ستراوس أيضاً في وضع قانون زيادة ساعات العمل الأسبوعي لرفع إنتاجية الفرنسيين، وقام بعمليات خصخصة واسعة، شملت عملاق الاتصالات "فرانس تلكوم". لكن هل يصح أن تسند رئاسة صندوق النقد الدولي إلى زعيم اشتراكي؟ وكيف يبذل ساركوزي، وهو أكثر الديغوليين يمينية، أقصى جهد ممكن لحشد الدعم لترشيح ذلك الاشتراكي، أي ستراوس؟ يعد ستراوس بالفعل أحد أقطاب الاشتراكيين الفرنسيين، فقد انضم إلى "الاشتراكية الدولية" مبكراً، وأصبح في عام 1986 أميناً عاماً مكلفاً بالدراسات في "الحزب الاشتراكي" الفرنسي، ثم اختاره "ميشل روكار" عام 1993 رئيساً لـ"لجنة خبراء الحزب"، وتولى بعد ذلك عدداً كبيراً من المسؤوليات والمهام الحزبية، فاختير سكرتيراً وطنياً عام 2002، وعضواً في المكتب الوطني عام 2003، وسكرتيراً وطنياً مكلفاً بالانتخابات عام 2005، وكان على وشك أن يكون مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة الأخيرة، حيث حصل في الشوط الثاني من الانتخابات الأولية على 20.8% مقابل 60.6% لمنافسته سيغولين رويال. أما بعد هزيمة رويال أمام ساركوزي، فقد دعا ستراوس إلى إكساب "الحزب الاشتراكي" صورة ديمقراطية على غرار كثير من الأحزاب الاشتراكية في أوروبا. إلا أن اشتراكية ستراوس كثيراً ما طعن فيها من قبل الاشتراكيين، متهمين إياه بالانحياز للرأسمالية، وبتبني أفكار تحبذ العولمة؛ فهو يرى أن هذه الأخيرة تنطوي على فرص ومزايا كثيرة، وإن أكد الحاجةَ إلى تجديد الاشتراكية. على تلك الخلفية، ومعها اعتبارات الوطنية الفرنسية، ذهب ساركوزي في جولة قادته إلى البرازيل والولايات المتحدة، وقام باتصالات مع اليابان، بعد أن أمن موقفاً أوروبياً لصالح ستراوس بوصفه مرشح الاتحاد الأوروبي لرئاسة صندوق النقد الدولي. وقد بدأت فرنسا تحركها بعد ما قدم الرئيس الحالي لصندوق النقد الدولي، وهو وزير الاقتصاد الإسباني السابق "ردوريغو راتو"، استقالته فجأة في 30 يونيو الماضي، مستبقاً تاريخ انتهاء ولايته في مايو 2009. وكان راتو قد خلف رئيس ألمانيا الحالي "هورست كويهلر" على رأس الصندوق في يونيو 2004، معلناً عن خطة إصلاح وتغيير لم تتكلل بالنجاح. فالصندوق الذي تأسس بموجب مقررات مؤتمر بريتون وودز عام 1944، ويضم الآن في عضويته 183 دولة، يواجه مطالب قوية من الدول النامية بإعطائها صوتاً أكبر في إدارته، وبإنهاء التقليد الذي يقضي بأن يكون رئيسه أوروبياً ورئيس البنك الدولي أميركياً. ولعل رحيل راتو بعد أسابيع من رحيل "بول وولفوفيتز" من رئاسة البنك الدولي، يظهر أزمة عميقة في المؤسسات الدولية، كما يشير إلى مرحلة جديدة من الغموض والضبابية، يسري بعضها الآن على ترشيح ستراوس، وأيضاً على مواقف الداعين لإصلاح البنك وصندوق النقد الدوليين! محمد ولد المنى