تعقد في دبي نهاية هذا الأسبوع، مناظرة حول شركات مياه الشرب في دولة الإمارات. ويتوقع أن تشارك هيئة التقييس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في هذه المناظرة، من خلال أمينها العام الدكتور راشد أحمد محمد بن فهد، والذي سيطرح ورقة عمل بعنوان: "دور هيئة التقييس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مجال جودة وسلامة مياه الشرب". ويأتي هذا المؤتمر في أعقاب تواتر سيل من التقارير والأخبار في وسائل الإعلام الدولية والصحف المحلية، عن مصدر المياه المعبأة في الدولة وحول العالم، ومدى نظافة وصحة وسلامة مثل هذه المياه. وتعود بداية القصة إلى نهاية شهر يوليو الماضي، عندما أعلنت شركة المرطبات المعروفة "بيبسي" عن عزمها الإفصاح على غلاف عبوات المياه المعبأة التي تبيعها في الولايات المتحدة تحت اسم "آكوافينا"، بأن مصدر المياه في الزجاجات هو مياه الصنبور. وكانت الشركة قد دُفعت إلى هذه الخطوة، تحت الضغط المتنامي لجماعات الحفاظ على البيئة، والتي تتهم صناعة المياه المعبأة بإضافة أكثر من مليارين ونصف مليار عبوة بلاستيكية لأكوام القمامة في الولايات المتحدة وحدها. وبعد هذا الخبر، سرعان ما انتشرت الأقاويل والشكوك حول صناعة المياه المعبأة، على المستويين الدولي والمحلي. مما حدا ببلدية دبا الفجيرة في الثاني من أغسطس الماضي، إلى حسم الجدل الدائر حول مصدر المياه المستخدمة بشركة "آكوافينا"، حين أصدرت البلدية خطاباً يفيد بأن المياه المستخدمة في المصنع التابع للشركة يتم استخراجها من الآبار الارتوازية، وأن البلدية تقوم بالمرور الدوري على الشركة للتأكد من عمليات تعبئة واستخراج المياه. وقدمت الشركة بعدها، فاتورة الكهرباء والمياه الصادرة عن الهيئة الاتحادية للمياه والكهرباء، وتفيد بعدم وجود أي توصيلات للشركة مع الهيئة. ولكن على ما يبدو أن الكابوس الذي وقع على صدر صناعة المياه المعبأة من حيث لا تدري، لم يكن قد شهد آخر حلقاته بعد. ففي الثلاثين من الشهر الماضي، نشرت صحيفة "الاتحاد" خبراً وصورة على صفحتها الأولى لعبوة مياه، وأرفقتها بعنوان "النمل يسبح في عبوة مياه بالفجيرة". وحسب الخبر، اشترى أحد المواطنين هذه العبوة، ليكتشف أن بها عدداً لا يحصى من النمل الأصفر، على الرغم من إحكام إغلاقها، وهو ما يعني أن النمل قد دخل العبوة خلال إحدى مراحل التصنيع. وأمام هذه الواقعة، وما سبقها من أحداث، قام جهاز أبوظبي للرقابة الغذائية في اليوم التالي، بالتأكيد على سلامة المياه المعبأة الموجودة في أسواق الإمارة. وبالإشارة إلى وجود رقابة صارمة على مصانع المياه، من خلال وحدة متخصصة بالصناعات الغذائية تابعة للجهاز، تقوم بالتفتيش الدوري على مصانع المياه، وإخضاع جميع منتجات هذه المصانع للتحليل المخبري الدوري. وحسب الخبر المنشور عن لسان مدير إدارة الاتصال والمعلومات بالجهاز (معظم شركات تعبئة مياه الشرب يكون مصدر مياهها هو الشبكة الرئيسية للمدينة أي "مياه الحنفية"، ولكن تجري عليها عمليات تنقية قياسية معروفة وبشكل قانوني بظروف صحية وبمواصفات معتمدة). وهو ما يجرنا لمناقشة بعض الحقائق الخفية في صناعة المياه المعبأة، مثل ضرورة التفرقة بين المياه المعبأة، والمياه المعدنية. فالمياه المعبأة أحياناً ما تكون مياهاً معدنية، وإن كانت غالباً ما تكون مياه حنفية تمت معالجتها. وهذه المعالجة لا تعني بالضرورة تحسين صفات المياه، أو جعلها أكثر أمناً وسلامة. وقد ظهرت هذه المفارقة بشكل جلي قبل بضعة أعوام، عندما حلّلت السلطات البريطانية عينات من مياه من ماركة تنتجها شركة عالمية كبرى، لتكتشف وجود تركيزات مرتفعة من مركب "البرومات" bromate، الذي يعتبر مادة مُسرطِنة إذا ما استهلك لفترات طويلة. وبما أن الشخص العادي يستهلك باستمرار كميات كبيرة من المياه، سارعت الشركة بسحب نصف مليون عبوة من تلك الماركة، ووقف توزيعها في بريطانيا، ثم إلغاء الخطط المستقبلية لتسويقها في أوروبا. وتأتي المفارقة من أنه رغم أن مصدرها مياه الحنفيات البريطانية، التي تحتوي على مادة "البرومايد" bromide غير الضارة، أدت عمليات المعالجة في مصانع الشركة إلى تحويلها إلى مادة "البرومات" المسرطنة. والغريب أنه رغم أن "داساني" سحبت من الأسواق البريطانية، وألغيت خطط توزيعها في الأسواق الأوروبية، إلا أنها ظلت تباع في الأسواق العالمية والمحلية. وربما يعود السبب في ذلك، إلى اختلاف تركيب المياه المعبأة حسب مصدرها، فنفس الماركة أو العلامة التجارية من هذه المياه، بغض النظر عن اسمها الواحد، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تماثلها في المحتوى والتركيب بين دول العالم المختلفة. وبخلاف هذه المخاوف الصحية، تشكل المياه المعبأة بنداً إضافياً في ميزانية الأسر المتوسطة، والمثقلة أساساً بأعباء أخرى كثيرة. كما أن تعبئة هذه المياه، ونقلها من مصدر الإنتاج إلى أماكن البيع، يستهلكان قدراً كبيراً من الطاقة الكربونية، مما يفاقم من المشاكل البيئية التي يواجهها العالم حالياً. ولكن رغم كل هذه الدعايات السلبية عن المياه المعبأة، لا يتوقع خبراء الصناعة أن يؤثر ذلك بالمرة على المبيعات، التي وصلت في الولايات المتحدة وحدها إلى أكثر من خمسة عشر مليار دولار سنوياً. ويعود السبب في ذلك، إلى أن الدافع الرئيسي خلف استهلاك المياه المعبأة، هو السهولة واليسر اللذان توفرهما التعبئة في الحصول على المياه في الأماكن والمواقف التي لا تتوفر فيها مياه شرب، وهو الدافع الأقوى من اختلاف مذاقها عن مذاق مياه الصنبور، أو حتى من الفوائد الصحية التي تدعيها صناعة تعبئة المياه.