تصريحان جاءا من جهتين غربيتين رئيسيتين هذا الأسبوع، أعادا إلى مجال التأمُّل والوعي المشكلات الواقعية أو الحقيقية في نظر الأطراف الحاكمة بالغربيْن الأوروبي والأميركي. التصريح الأول أتى على لسان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في حديثه الأول رئيساً للجمهورية أمام الجهاز الدبلوماسي الأجنبي بباريس. والتصريح الثاني أدلى به زلماي خليلزاد مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة. قال ساركوزي في سياق عرضه للقضايا الدولية إنّ هناك مشكلةً عالميةً رئيسيةً تتمثّل بالتطرف الإسلامي، والذي يَنمُّ عن عداءٍ للغرب والحضارة. واقترح مخرجاً طويلَ المدى من هذا "الخَطَر" يتمثَّلُ في دعم الاعتدال الإسلامي، ومن ضمن هذا "الدعم" للاعتدال المذكور استيعاب تركيا المسلمة/ العلمانية والمعتدلة في مشروعه للاتحاد المتوسطي. نعم الاتحاد المتوسطي، وليس الاتحاد الأوروبي! أمّا زلماي خليلزاد، الأميركي من أصل أفغاني، فقد تحدث عن "الاختلال" في الشرق الأوسط، وشبَّههُ بالاختلال الذي حدث بأوروبا في النصْف الأول من القرن العشرين، والذي أدَّى إلى حربين عالميتين. وجوهرُ هذا الاختلال في الشرق الأوسط، كما ذكر زلماي خليلزاد التطرف الإسلامي، الذي عاد فاقترح مخرجاً منه إلى جانب "الحرب على الإرهاب" دَعْمَ الاعتدال الإسلامي، ونَشْرَ الثقافة الديمقراطية في بلدان العالمين العربي والإسلامي. أتى هذان الإعلانان في أسبوعٍ واحدٍ بل في يومٍ واحدٍ هو السابع والعشرون من شهر أغسطس، ونُشرا في صحف ووسائط إعلام اليوم الثاني. ولأنهما تضمنا موضوعاتٍ أُخرى (مثل الحديث عن سوريا لدى ساركوزي، والعراق لدى خليلزاد)؛ فإنّ المسألة الإسلامية المشتركة بينهما لم تلفت الانتباه. وهما وإن اختلفت خلفياتهما وأسبابُهُما ينماّن عن وعيٍ معيَّنٍ مشترك، صار ديدنَ اليمين العالمي الجديد، بل وبعض اليسار، في العقد الأخير من السنين. أسبابُ وعي ساركوزي هذا داخليةٌ فرنسية. ففي فرنسا ستة ملايين مسلم، أكثرهم من أصول مغاربية، ولدى قلّةٍ معتبرةٍ منهم مشكلاتٌ في الاندماج، وقد اشتهر عن ساركوزي -وكان وزيراً للداخلية- عصبيتُهُ الشديدةُ تُجاه "المتمايزين" و"الفوضويين" من المسلمين، وقد تكونُ تلك العصبيةُ بين أسباب نجاحه في انتخابات الرئاسة. وقد بذلت المؤسَّسات الفرنسيةُ، وبذل هو -والحقُّ يقال- جهوداً مشهودةً في العقد الأخير للتصدي لهذا "الاستعصاء" على الاندماج، وآراء الدارسين والمراقبين تُشير إلى تحقيق نجاحات في هذا الصدد. بيد أنّ ذلك لم يمنعْ ظهورَ وعيٍ معيَّنٍ لدى فئات واسعة من الفرنسيين والأوروبيين مؤدَّاهُ أنّ المشكلة لدى الجاليات الإسلامية في القارة القديمة تتمثل في دينها، وغُربتها وغُربته عن هوية أوروبا وثقافتها وحضارتها وتقدمها. ولذا فإنَّ مسألةً رمزيةً دالّة مثل غطاء الرأس لدى بعض الفتيات المسلمات، أثارت وما تزالُ تُثيرُ حساسيات عالية لدى ساركوزي ومسؤولين سياسيين وتربويين فرنسيين وأوروبيين بحيث إنّ رجلاً ليبرالياً مثل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، ما كان معروفاً بأيِّ موقفٍ سلبيٍّ من العرب والمسلمين ديناً وبشراً، دفع باتجاه قانون في البرلمان الفرنسي، لمنع ارتداء غطاء الرأس في المدارس والمؤسسات العامة! وليس من الممكن موافقة الرئيس الفرنسي الجديد على موقفه من الإسلام، لكنْ ليس ذلك من همّنا الآن. بل الطريف تأمُّلُ الحلّ الذي يقترحُهُ للمشكلة الإسلامية -كما سمّاها- والمتمثّل في التفضُّل على تركيا بإدخالها في مشروعه الوهمي للاتحاد المتوسطي! ليس لفرنسا مشكلةٌ "خارجيةٌ" في العلاقات مع الدول العربية والإسلامية. بل إنّ نشاط "القاعدة" ما نالَ من فرنسا حتى الآن، ويبدو أنه لن ينالَ منها. ولهذا فهو يقترح حلاًّ خارجياً لمشكلةٍ داخليةٍ فرنسيةٍ لا حلَّ لها إلاّ بالمواطَنة الكاملة، والديمقراطية التي تُقِرُّ التنوعَ والتعدُّد بما في ذلك الدين واللباس والتقاليد. ثم إنّ المعروفَ أنَّ تركيا تُحاولُ الدخولَ إلى الاتحاد الأوروبي في عمليةٍ مُضْنيةٍ بدأت قبل خمسةٍ وأربعين عاماً، وكان الرئيس الفرنسي السابق يدعمُ ذلك. أمّا ساركوزي فيُغلّبُ اعتبارات "الخصوصية" الثقافية والدينية (وهو ليس متديِّناً، بينما كان شيراك كذلك) ذات الطابع الاستعلائي، ويستبعدُ من خلالها "الاعتدال" الإسلامي الذي يزعُمُ نُصرته، وتُجاه دولةٍ علمانيةٍ معلِنة لفصل الدين عن الدولة، لا لشيء إلاّ لأنّ الشعب التركيَّ مسلمٌ ديناً في غالبيته الساحقة. وقد كان البابا بنديكتوس السادس عشر، ومنذ كان مطراناً لميونيخ في السبعينات، يرفض دخول تركيا للاتحاد الأوروبي بسبب الخصوصية المسيحية بالذات. لكنه ومنذ حوالي العام راجع موقفَهُ، وصار من أكبر الداعين لاستيعاب تركيا في الاتحاد، لتشجيع الاعتدال والديمقراطية وحسن العلاقة بين الدينين العالميَّين المسيحية والإسلام! ومشكلة زلماي خليلزاد مع الإسلام تختلفُ عن مشكلة ساركوزي معه. إذ ليس لدى الولايات المتحدة قضيةٌ داخليةٌ أميركيةٌ مع الإسلام. فالمسلمون الأميركيون استوعبتهم التعددية في النظام. والمتشددون بينهم قليلون، وهم لا يمارسون أيَّ عنفٍ أو تمايُزٍ منفِّر. وإنما ظهرت المشكلةُ بين الدولة الأميركية والعرب والمسلمين مذ صارت تلك الإمبراطورية قطباً أوحَدَ مهيمناً في العالَم، وفي عالَمهم بالذات. "القاعدة" هاجمت الولايات المتحدة بسبب دَورها في العالم، وتُجاه العرب والمسلمين. وما كان ذلك الأسلوبُ سليماً وصحيحاً؛ بل كان كارثياً على الإسلام والمسلمين أكثر من الغربيين وما يزال. والخَلَلُ في الشرق الأوسط ليس علتُه الإسلام المتطرف، بل دعم استعمار فلسطين، وسياسات الهيمنة التي انتهت إلى غزو وتخريب أفغانستان والعراق. وقد نجح المتطرفون، ونجحت الشعوب، في خَلْق مشكلات هائلة للأوحدية القطبية الأميركية في السنوات الماضية وإلى اليوم. والقضيةُ المُضافةُ منذ عام 2005، والمتمثّلة في التجاذُب بين الولايات المتحدة، وإيران علتُها أيضاً السياساتُ الأميركية للهيمنة والاستضعاف والابتزاز والحصار. ولذلك، كان اقتراحُ زلماي خليلزاد ولوقف الصِّدام ليس أقلَّ "استشراقيةً" من أفكار ساركوزي ومشروعاته. هو يريد (وهو بالمناسبة من بقايا المحافظين الجدد في إدارة بوش الثانية!) تصوير المشكلة الأميركية باعتبارها مسؤوليةً عربيةً وإسلاميةً داخليةً، وعلى العرب والمسلمين حلّها! ولستُ أزعُمُ هنا أنه ليست هناك مشكلاتٌ بداخل الإسلام المُعاصر، وداخل المجتمعات والثقافات العربية والإسلامية. كما أنني لستُ أزعُمُ أنّ المخاضَ الذي نُعاني منه لا يعني العالم. فالإسلام دينٌ عالمي، والمسلمون أُممٌ ضخمةٌ يسبّب اضطرابُها اضطراباً عالمياً. لكنّ الذي أعنيه أنّ موضع اضطراب الأميركيين الآن العراق وأفغانستان وبسبب الغزو والاحتلال والتخريب. ومن مواطن الاضطراب الكبرى فلسطين، والأميركيون يشتركون في المسؤولية عن ذلك مع الصهاينة ولا صحةَ لقياس ما يحدث في الشرق الأوسط على ما حدث في أوروبا في الحربين. فتلك أُمَمٌ كانت تتصارع من أجل الهيمنة على العالم، أمّا نحن فالعالم كلُّه، والولايات المتحدة على الخصوص، تحدوه إرادة الهيمنة علينا، ونحن لا نكادُ نستطيع الدفاعَ عن أنفُسِنا! فكيف يستطيعُ "الاعتدالُ" الإسلامي (أي الذي لا يؤمن بالعنف في العلاقات بين الدول والأُمَم والثقافات والأديان)، أن يتعامَلَ مع هذه الاعتداءات الأميركية على الأوطان والدين والثقافة والحضارات وحقوق الإنسان والحرية؟! الاعتدال الإسلامي يستطيع مُواجهة التطرف الإسلامي، بل يجبُ عليه أن يُواجههُ في بلداننا التي تُعاني منه في استقرارها واستمرارها أكثر مما يُعاني منه الغربُ كلُّه. لكنْ ليس من شأنه ولا من مصلحته أن يُعينَ الأميركيين على "النجاح" في السيطرة على العراق وعلى أفغانستان، واستمرار الاستعمار والاحتلال الصهيوني في فلسطين. فأكبر عَونٍ للمعتدلين المسلمين يتمثّل في التخلّي الأميركي عن سياسات الهيمنة والحرب والتخريب. وفي البدء الاعتراف بأنَّ كلَّ ما جرى كان خطأً في خطأ، وضلالاً في ضلال. أمّا ما فعلَهُ زلماي خليلزاد فهو الإصرار حتى الآن على سلامة وصحة ما جرى في العراق (رغم الأخطاء المتعددة كما قال)، وإلقاء التهمة على عاتق الإسلام المتطرّف، وفي ماذا؟ في مقاومة الاحتلال أو تحدِّيه! إن ما قاله كلٌّ من ساركوزي وخليلزاد خطأٌ كبير. بيد أنّ الأكثر خَطَراً هذا "الوعي المستقرّ" بأنّ المشكلة إنما هي في تطرُّف المغزوِّ والمُطارَد والمستقتِل، وواغوثاه من ديمقراطية واعتدال المذابح بالعراق، ورحابة وتُسامح الاتحاد المتوسطي في لا مكان!