هل يمكن تلخيص العلل الاقتصادية التي يعاني منها العالم العربي في مقال واحد؟ هل يمكننا إلقاء نظرة عامة على اقتصاديات أكثر من عشرين دولة، وتشخيص كل الأمراض المتفشية والأوبئة المستوطنة في هياكل هذه البلدان؟ نحن نعرف بالطبع أن الدول العربية متفاوتة في الحجم الجغرافي والسكاني، وفي المستوى المعيشي ودرجة التطور الاقتصادي والاجتماعي، وفي درجة الانفتاح والحرية الاستثمارية وطبيعة ملكية وسائل الإنتاج ومدى التوازن بين القطاعين العام والخاص، وغير ذلك. ولكن من الباحثين مَن درس هذه الاقتصاديات، وخرج من الدراسة بجملة ملاحظات قيمة تشملها جميعاً. وهذا ما نراه في دراسة د. عاطف قبرصي، المنشورة في كتاب مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام 2007، بعنوان "التحولات الراهنة ودورها المحتمل في إحداث التغيير في العالم العربي"، والذي يتضمن مجموعة من الدراسات القيمة التي لابد من الإلمام بها إن كنا حقاً بصدد متابعة هذه التحولات العالمية والاستفادة منها. ويرى د. قبرصي أن الاقتصاديات العربية تعاني اليوم من مكامن ضعف بنيوية تحول دون توظيف قدراتها في الانتقال إلى مرحلة بناء اقتصاديات مثمرة وافرة الإنتاج. وهذه ملاحظة أساسية للباحث لاقتصاديات العالم العربي، ذلك أن الكثير من الباحثين، وكذلك عامة المتحدثين في هذا الشأن، يعددون مصادر القوة والثروة والطاقة البشرية وغيرها، ولا ينتبهون إلى "مكامن الضعف البنيوية" هذه، والتي تعرقل استفادة مجتمعات بلداننا من كل هذه الإمكانيات. ويقدم الباحث عرضاً موجزاً للمعضلات الأكثر أهمية، نسلط الأضواء على أبرزها. أولى هذه المعضلات في تقييمه، الاعتماد المفرط على العائدات النفطية. ولعل أهم السلبيات الجديدة التي يشير إليها الباحث هنا، والتي قلما نلتفت إليها، أن الاعتماد على دخل النفط قد أوجد "عملات محلية ذات أسعار مبالغ فيها ساهمت في الحيلولة دون تطوير الصناعات المخصصة للتصدير". وأوجد هذا الاعتماد كذلك "تكاليف إنتاجية مضخمة إلى حد غير معتاد فتحولت إلى أحد أسباب تقويض ركائز القطاعين الصناعي والزراعي على حد سواء". والمشكلة الثانية، تنامي الأنماط الاستهلاكية غير القابلة للدعم، وهو ما نراه في الدول العربية النفطية وغير النفطية، حيث يتم استثمار جانب كبير من الناتج المحلي في مجال العقارات الضخمة أو مشروعات البنى التحتية التي لا تكون مثمرة في الغالب وتتسم بالازدواجية، ولم تثبت الجدوى الاقتصادية لمعظمها بصورة مستقلة عن الدعم الحكومي. فهذه المشاريع عالة على الاقتصاد بدلاً من أن تكون من مصادر الدخل. ومما يرتبط بهذه المشكلة، تضخم الإجراءات الروتينية الحكومية وارتباط الدخل بالنفط، حيث إن دخول المواطنين مفصولة عن معدلات الإنتاج وترتبط بأسعار النفط. ومن النقاط التي يعددها الباحث "ضعف المراكز العلمية والإبداعية العربية". ويكفي القارئ أن يعلم أن هناك 50 فنياً فقط لكل مليون شخص في العالم العربي، في حين تصل النسبة إلى ألف فني في الدول الصناعية! ويقل عدد العاملين العرب المتفرغين في ميدان البحوث عن 35 ألف شخص، يعمل قرابة نصفهم في مصر! وتعاني مصر في هذا المجال مشاكل كثيرة كالتمويل الضعيف وهجرة الكفاءات. ويلاحظ باحث أن مثل هذه المشاكل تفرز ممارسات غير صحية بين الباحثين "من بينها التكالب على الانضمام إلى بعض عقود البحث في الصناعة أو الزراعة، التي تتضمن دفع أموال إضافية إلى فرق البحث، ولتفرز أيضاً بعض مظاهر التصرفات البيروقراطية المادية الدافع". (السياسات التكنولوجية في الأقطار العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1985، ص238). ونرى مثل هذه السلبيات في شكوى رئيس رابطة الباحثين العلميين في معهد الكويت للأبحاث العلمية التي رفعها في يوليو 2007 للجهات الحكومية، والتي منها "الإدارة السيئة لأمور الباحثين وعدم الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي وصون عملية الكتابة والنشر، كالضغط على الباحثين الأساسيين لإضافة أسماء ليس لديها أي مساهمة في النشر.. واستغلال بعض الإدارات للأموال المخصصة للبحث العلمي لتمويل دورات خاصة وسفرات، بحجة التعرف على الأبحاث ومراكز البحث العلمي في الخارج". (الوطن الكويتية، 7/7/2007). ويلاحظ د. قبرصي غياب المؤسسات العلمية والتكنولوجية المناسبة في المنطقة العربية، وعلى الرغم من أن العالم العربي يضم أكثر من عشرة آلاف شركة استشارية وما يزيد على مائة ألف شركة للمقاولات، فإنها ما تزال في عداد الشركات الصغيرة ذات التخصص المحدود في ميادين الهندسة المدنية، وهناك من القيود ما يعوق توسيع نشاطاتها. وتميل هذه الشركات العربية إلى تنفيذ مشروعاتها في بلدانها الأصلية ولا تجرؤ إلا نادراً على ممارسة نشاطها في الخارج. ويعاني العالم العربي من قلة براءات الاختراع، ففي عام 1995 مثلاً كان نصيب مصر منها 789 والسعودية 455، بينما كان نصيب كوريا الجنوبية أكثر من ثلاثين ألفاً، وهولندا أكثر من 53 ألف براءة اختراع. وفي مجال البحث العلمي عام 1995 مثلاً، كان ثمة 26 بحثاً منشوراً لكل مليون إنسان في العالم العربي، في حين كان نصيب كل من البرازيل وفرنسا وسويسرا وكوريا الجنوبية من هذا الإنتاج 42، 840، 1878، و144 بحثاً. ولمقارنة التقدم الذي حققته كوريا الجنوبية مقارنة بالعالم العربي، يقول الباحث: إن إجمالي النتاج البحثي للبلدان العربية مجتمعة في عام 1985 كان مساوياً لما حققته كوريا الجنوبية في هذا النتاج، أي 15 بحثاً منشوراً لكل مليون شخص. ومن مشاكل اقتصاديات العالم العربي، في تحليل د. قبرصي، تشتت البنى والمؤسسات الصناعية، إذ تفتقر البلدان العربية إلى سلسلة أو مجموعة مترابطة من المؤسسات الصناعية العريقة ذات الأسس القوية. وثمة بعض المحاولات الناجحة، كمدينتي "ينبع" و"جبيل" السعوديتين مثلاً، ولكن الحاجة لا تزال قائمة إلى التوسع في هذه الظاهرة. ويتصل بهذه المشكلة كذلك قلة عدد الشركات الكبيرة والمتوسطة التي تتخذ العالم العربي مقراً رئيسياً لها، ذلك أن المؤسسات الفرعية التي تقيمها الشركات لا تساهم بالشكل المطلوب في تطوير العمالة الماهرة، ويتصل بها كذلك نقص الاستثمار في مجال التدريب، والتأخر في اعتماد أنظمة مرنة لمراكز العمل والإنتاج، مما يزيد من معاناة المجتمعات من مشكلة البطالة التي تصل بين الشباب إلى 25% و12% كنسبة عامة. ويُلاحظ ضمن مشاكل التصنيع في بلدان العالم العربي غياب الانسجام بين الهياكل والبنى الصناعية، ويقول الباحث إن العالم العربي لم يجرؤ حتى الآن، على المضي بشكل جاد على طريق الاندماج بالاقتصاد "الجديد"، وما يزال الإنتاج التصنيعي الأوّلي هو السمة الطاغية لبنية الإنتاج في العالم العربي. وفي الوقت الذي تقيم فيه الثورة الصناعية الثالثة مرتكزاتها في حقلين أساسيين: أولهما ما يسمى بـ"الإلكترونيات الجوامد" أو (الحاملات الصلبة) أي Solid-State electronics، وثانيهما هو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فإن البلدان العربية لم تمتلك حتى الآن القدرة على بناء قاعدة أولية في هاتين الصناعتين، بعكس الدول الآسيوية. بالمقابل، نجد أن معظم السكان في العالم العربي يعملون في القطاع الزراعي بالنسبة للدول المكتظة بالسكان، وفي قطاع الخدمات في دول مجلس التعاون والأردن. من جانب آخر، نرى أن المكاسب التعليمية التي تحققها العمالة العربية لا تؤهلها بشكل كاف للدخول في ساحة المنافسة الدولية. ويبدو بؤس أداء البلدان العربية واضحاً إذا ما عرف المرء أن متوسط سنوات الدراسة في شرق آسيا في عام 1992 يفوق الأرقام المتوقعة في العالم العربي عام 2010، وهو 6.9. ومن المفارقات هنا "أن العرب ينفقون بسخاء على قطاع التعليم العالي، أربعة أضعاف ما ينفقونه على المستويين الابتدائي والثانوي، بنسبة تزيد كثيراً على ما تنفقه سائر البلدان الأخرى على هذا القطاع"! ورغم هذا، فثمة ضآلة في أعداد طلبة فرعي الرياضيات والهندسة، ومشاكل في قطاعات أساسية تؤدي في النهاية إلى تراجع إنتاجية القوى العاملة. وقد شهدت المنطقة العربية خلال الأعوام ما بين 1960 و2000 تقلصاً حاداً في متوسط إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج، بينما ارتفع هذا المتوسط في معظم بلدان العالم النامي. هذه كلها، فيما يبدو، بعض مشاكل "العجلة الاقتصادية" التي نركبها جميعاً، ونحن ندخل سباق العولمة، أما مناهجنا الدراسية، وإعلامنا الطنان الرنان، والخطب والمواعظ، وأشرطة التكفير، ومقالات المثقفين، فتتحدث للأسف عن شيء آخر!