خطوط سياسة ساركوزي الخارجية... وحظوظ "تركيا جول" الأوروبية توابع التجاذب الفرنسي العراقي حول تصريحات وزير الخارجية برنار كوشنر، والملامح العامة لسياسة الرئيس نيكولا ساركوزي الخارجية، وتداعيات انتخاب الرئيس عبدالله جول في تركيا، موضوعات ثلاثة نضعها تحت دائرة الضوء في استعراض سريع لافتتاحيات الصحف الفرنسية. هفوة الـ"French Doctor": تزامُن السجال العراقي- الفرنسي حول تصريحات وزير الخارجية برنار كوشنر الداعية إلى استبدال رئيس الوزراء نوري المالكي، مع خطاب الرئيس نيكولا ساركوزي في المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين، دفع هذا الأسبوع معظم كتاب الافتتاحيات في الصحف الفرنسية للتركيز على الحدثين، مع محاولة استشراف لموجهات سياسة فرنسا الخارجية للمرحلة المقبلة. المحلل السياسي رينيه باكمان اعتبر في مجلة لونوفل أوبسرفاتور أن تصريحات وزير الخارجية كانت هفوة دبلوماسية لا غبار على خطئها، وهذا ما يفسر مسارعة حكومة ساركوزي للاعتذار عنها. بل إن الكثير من المهتمين بشؤون المنطقة لم يستطيعوا مقاومة ما انتابهم من رغبة في الضحك بعدما اقترح كوشنر بديلاً للمالكي هو تحديداً العراقي الشيعي "الفرانكوفوني" الوحيد. ومشكلة "الفرنش دوكتور" -كما يلقب كوشنر عالمياً على خلفية منظمته الإنسانية "أطباء بلا حدود"- هي أنه أخفق في التمييز بين الكلام الذي يقال خلسة بين أربعة جدران ووراء أبواب مصمتة وذلك الذي يقال أمام وسائل الإعلام، فراح يصرِّح استبدلوا فلاناً بفلان، وهو يتحدث عن بلد آخر، جاء إليه أصلاً بزعم "الوساطة" المحايدة و"استعادة الدور" الفرنسي، إلى آخر ما هنالك من مفارقات. وفي افتتاحية "فرانسيس لاشا" في "لوكورييه بيكار" نجد تنبيهاً آخر إلى أن تصريحات كوشنر أعادت الحديث مجدداً عن تفضيل فرنسا لأنصار نظام صدام حسين، وإن كان الكاتب اعتبر أن الدعم القوي الذي أبداه الرئيس ساركوزي لكوشنر في خطابه بمؤتمر السفراء، وتثمينه لتحركات رئيس دبلوماسيته، فيه نوع من الضغط غير المباشر على نوري المالكي، وتنبيه له على أن لفرنسا رأياً فيما يجري في العراق. أما في افتتاحية "لاربيبليك ديسانتر" فقد اعتبر "جاك كامي" أن تعيين كوشنر أصلاً في قصر "كيدورساي" -مقر وزارة الخارجية الفرنسية- أثار تساؤلات الكثيرين حول ما إذا كانت خبرته الدبلوماسية كافية لذلك. وهي التساؤلات التي عادت مجدداً إلى السطح مع هفوته العراقية الأخيرة، ومع إصراره المتواصل على ممارسة نوع من الخلط بين "العمل الإنساني" والدبلوماسية التقليدية، دون أن يفطن إلى أن ثمة فرقاً كبيراً من حيث جسامة المهمة وأعباؤها بين تسيير المهام الدبلوماسية المُعقدة وبين نقل أكياس الأرز وتوزيعها على المنكوبين. ملامح سياسة ساركوزي الخارجية: صحيفة لوفيغارو -اليمينية- نشرت افتتاحية بقلم رئيس تحرير الشؤون الدولية بيير روسلين قال فيها إن ما تم رصده من مواقف حتى الآن وما عبر عنه ساركوزي في خطابه أمام السفراء كله يؤكد أن "القطيعة" التي وعد ببلورتها في أداء دبلوماسية بلاده تتم الآن، من خلال نبرة جديدة وآليات تحرك جديدة أيضاً. إنه يسعى وبوسائل مختلفة إلى جعل فرنسا تلعب دوراً محورياً في قلب الشؤون الدولية. وأهم ما يميز هذا التوجه هو التعويل على الإرادة القوية، والتصميم، والحكم على الأمور بالنتائج. وإذا تأملنا ما جاء في مداخلته أمام السفراء نجد أنه قدم رؤية مبادِرة وعلى أكثر من جبهة خارجية ابتداءً من توسيع مجموعة الثماني، وعلاقات الدفاع الأوروبية، وخاصة مقاربته الجديدة لـ"المسألة التركية"، وانتهاءً بأفغانستان، وكوسوفو، وإيران، ولبنان، والعراق، ودارفور وطبيعة العلاقات مع الدول الإفريقية وغيرها من القضايا والأزمات. وينهي روسلين افتتاحيته الإيجابية بالقول إن "القطيعة" التي وعد الرئيس بتحقيقها هي ما نراه الآن من خطوات. وعلى نقيض ذلك جاءت افتتاحية بيير لوران في صحيفة لومانيتيه -الشيوعية- حيث حمل على ما اعتبره هرولة من ساركوزي نحو الالتحاق بركب التبعية، وسعياً منه للارتماء تحت رحمة العولمة الرأسمالية بكل فظاعاتها، ولتكريس اللاعدل واللامساواة على صعيد كوني. والحقيقة أن مؤدى قراءة ساركوزي السياسية للأزمات الدولية ليس سوى نسخة من رؤية المحافظين الجدد الأميركيين، وأكثر أطروحاتهم فجاجة عن الصراع بين الإسلام والغرب، يقول الكاتب. أما ما عدا ذلك من حديث الرئيس فلا معنى له، لأنه لا رؤية دولية واضحة لديه على رغم كثرة خطابته. إنها مفارقة أن يبقى ساركوزي يتحدث باستمرار في الشؤون الدولية، ولكن موقف فرنسا على صعيد عالمي مازال أخرس، وغير واضح. وفي صحيفة ليبراسيون -اليسارية- ركزت افتتاحية "ديدييه بوركيري" على حدة المواقف التي عبّر عنها ساركوزي تجاه كل من روسيا والصين. وكذلك الصيغة الصادمة التي استعملها ضد إيران حين تحدث عن معادلة "إما القنبلة... وإما القصف". وما ينقص ساركوزي هو أن يعرف أن من يقود بلداً متوسط الحجم، ويحكم خياراته الكثير من الاتفاقيات والالتزامات الدولية، عليه أن يركز على شيء غير الخطابة الدبلوماسية، لأنها ليست هي الأهم. كما لاحظ "جان جينل" في افتتاحية "لوتلغرام" أنه على رغم كثرة الجعجعة والحديث عن مقاربة ساركوزية مختلفة لسياسة فرنسا الخارجية، وعلى رغم وعوده بإحداث "قطيعة" في هذا المجال، فإن مواقفه ما زالت حتى الآن وفية لتقاليد الجمهورية الخامسة، وتحمل خاصة معظم ملامح سياسة سلفه الرئيس شيراك. لقد قدم أمام السفراء رؤية دبلوماسية أقل ما يمكن قوله عنها هو أنها كلاسيكية، وعادية جداً. عبد الله جول... عهد جديد في تركيا: تحت هذا العنوان كتبت صوفي شهاب مقالاً تحليلياً في صحيفة لوموند رصدت فيه بعض تداعيات انتخاب عبدالله جول كـ11 رئيس للجمهورية التركية، ذلك أن انتخابه يفتح أمام الأتراك أفقاً سياسياً جديداً، كما أن اختيار هذا السياسي شديد التعلق بعلاقات بلاده الأوروبية لابد أن تكون له آثار إيجابية على مساعي أنقرة للانضمام إلى البيت الأوروبي. والجانب التاريخي الرمزي في انتخاب "جول" لا تخطئه الملاحظة، فبعد 85 عاماً من تأسيس تركيا الكمالية، ها هو الكرسي الذي جلس عليه أتاتورك نفسه، ومنه ألغى "الخلافة" العثمانية، يشغله الآن رجل حلم طويلاً خلال شبابه بعودة تلك "الخلافة" بالذات. ولاشك أن الصخب الذي أثارته النخب العلمانية التركية خلال مخاض ترشيح "جول" للرئاسة يعبِّر عن حجم المأزق الذي انتهت إليه، خاصة في دعاواها بأن لـ"جول" وحزبه "أجندة إسلامية خفية"، وهو ما لا يبدو أن الجنرالات اقتنعوا به في قرارة أنفسهم، وهم الذين طالما اعتبروا أنفسهم "حراس" العلمانية والوحدة الوطنية. أما رد الفعل الإيجابي الأوروبي وتحديداً الفرنسي على انتخاب "جول" فقد رصده كُتاب افتتاحيات عديدون، منهم غويوم جوبير في "لاكروا"، الذي ربط بين انتخاب الرئيس التركي وتصريحات ساركوزي التي تحدث فيها، لأول مرة، عن استمرار وجدوى المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا من أجل "الانضمام". كما أفاضت في هذا الربط أيضاً افتتاحية جوزيف ليمان في "ويست فرانس"، التي اعتبرت موقف ساركوزي الجديد تحولاً جذرياً، خاصة أن الرئيس الفرنسي طالما عرف خلال حملته الانتخابية بمواقفه الصريحة في مناهضتها لاستمرار المفاوضات مع أنقرة، وهو صاحب الصيغة الشهيرة بأن "تركيا بلد من آسيا الصغرى... وليست بلداً أوروبياً"، بأي شكل. وقد أثنى الكاتب على هذا التحول داعياً الأوروبيين لتقديم المزيد من التشجيعات للمسار الإصلاحي في تركيا، وفي المقدمة أن يكونوا عند كلمتهم وأوفياء لها. إعداد: حسن ولد المختار