منذ أن انفرط عقد الوحدة السورية- المصرية عام 1961، وأخفقت تجارب الاتحادات الثلاثية التي لم تجد أي تفعيل في الواقع السياسي العربي، بدأ البحث عن التضامن العربي بديلاً عملياً عن الحلم الوحدوي. وكنتُ أستغرب أن يقبل العرب فيما بينهم بالتضامن، الذي كانت تعلنه معهم أمم أخرى تؤيد حقوقهم في المحافل الدولية، بل إن بعض الأمم والدول كانت تعلن أياماً للتضامن مع كفاح الشعب الفلسطيني أو الشعوب العربية، لكن المفارقة أننا بتنا اليوم نبحث ونكاد نكتفي بتحقيق الحد الأدنى من هذا التضامن الذي يحمل دلالة شراكة بدل الاندماج والتمازج في أبعاده القانونية. ولكن الأدبيات السياسية لم تضع حدوداً لهذا التضامن، مما يجعل الحديث عن الحد الأدنى أو الأعلى فيه غير مُقيّد. وأجد من الضروري أن يؤكد العرب في لقاءاتهم السياسية الراهنة على الضوابط والحدود التي يعنيها هذا التضامن، وأن يتم الإعلان عن ماهيته ومضامينه، أهو تضامن شامل، أم تضامن محدود، وهل بوسع أحد المتضامِنين أن يقوم بفعل أو تصرف يخالف المصلحة العامة التي يرمي إليها هذا التضامن دون أن ينقض حدود هذه الشراكة؟ لقد توالت الاتهامات إلى الفكر العربي القومي بكونه يقوم على العواطف والمشاعر، ويستبعد العقلانية والمصالح القطرية، وقيل إن السياسة تدعو إلى الإذعان الكامل للواقعية ولفن الممكن، فتم إجهاض أحلام الوحدة، وتم تجاهل تعريف الأمة العربية، وتم الاعتراف الكامل من الفكر القومي بالدولة القُطرية، ولكن الإسراف في الإذعان للواقعية السياسية أوصل الأمة إلى شرذمة غير مسبوقة في تاريخها. ولنا أن نتذكر أن المماليك وهم ليسوا عرباً، أقاموا دولاً في أرضنا العربية بعد انهيار الدولة العباسية، لكنهم كانوا يحرصون ولو على صعيد شكلي بأن يستمدوا الشرعية من مركز الدولة الأم في بغداد حفاظاً على وحدة الأمة في صورتها الخارجية. وفي العصر الحديث أنكرنا على قادة الأمة في النصف الأول من القرن العشرين إخفاقهم في حرب النكبة، ووجَّه جيلنا إلى بعضهم تهم الخيانة، ولكننا لا نجد أحداً منهم أعلن ذات يوم تنكُّره لمعنى العروبة، أو لأهدافها القومية، بل إنهم أجمعوا على إقامة بيت عربي هو الجامعة العربية، وساعدهم في ذلك البريطانيون الذين كانوا هم والفرنسيون يقتسمون الأمة العربية، ولكنهم لم يجرؤوا قط على إنكار عروبتها وإسلامها، اللهم إلا في تجربة فرنسا الفاشلة في الجزائر. وما يزال العالم اليوم يعاملنا على أننا أمة واحدة ويسمينا العرب، بينما نحن نغرق في واقعية الانقسام ونمعِن في قبول التجزئة إلى حد تكاد تضيع فيه الحدود الدنيا من التضامن الذي بات حلماً يتلاشى مع ما نشهده من خلل واضح في العقد والميثاق العربي، وفي ما نسميه الثوابت. لقد قادتنا الواقعية السياسية إلى مواقف لا أدري كيف ستحكم عليها الأجيال العربية القادمة إن هي تمكنت ذات يوم (وسوف تتمكن إن شاء الله) من إصلاح الوضع العربي المتردِّي. ولن أُسرف في وصف ما آلَ إليه الحال العربي (حفاظاً على الحد الأدنى من التضامن) فهو وضع معروف، حسبنا منه أن بعض العرب يتفرَّجون عليه كأنه يحدث في كوكب آخر، وبعض مثقفيهم يبحث له عن مبررات. تماماً كما نجد منذ حين مَن يبرر ما يحدث في فلسطين من حصار لغزة وتجويع لأهلها، وتقسيم للشعب الفلسطيني، رغم إدراك الجميع خطر ما يتم التخطيط له على صعيد استراتيجي ستكون نتائجه المأساوية شاملة للأمة كلها. ولسوف ينتقدني بعض من يبحثون عن هذه المبررات لإسرائيل أو للولايات المتحدة، ممن يعتبرون غزوها للعراق مثلاً، نشراً للديمقراطية وخلاصاً من الديكتاتورية. وسينتقدني مَن يعتبرون "حزب الله" مسؤولاً في أسره لجندي إسرائيلي عن تحريض إسرائيل لشن حرب تموز العام الماضي، ومَن يعتبرون تمسك "حماس" بالحق الفلسطيني الشرعي تعطيلاً لعملية السلام وما إلى ذلك، بحيث يتحول الحديث إلى التناحر في تبادل المسؤوليات بدل الحديث عن خطر الاحتلال في العراق وفلسطين وعن الخطة الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية لإنهاء ارتباط لبنان بالأمة العربية، وإضعاف سوريا وحصارها وإجبارها على اللحاق بالمشروع الصهيوني الشرق أوسطي، الذي انسل إلى بعض مواقع القوة العربية، وباتت تخدم أهدافه عبر شبكة العلاقات السياسية الدولية التي تفرضها الواقعية. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح في الملتقيات السياسية العربية بجدية ومصارحة على قيادات الأمة، إلى أين تمضي أمتنا؟ ها هي ذي إسرائيل تهددنا صباح مساء، وتعِدُّ لحروب جديدة، بل إن المحللين السياسيين يترقبون أن تقوم إسرائيل بعدوان جديد هذا الصيف وربما في الخريف القادم، فما موقف العرب إن حدث ذلك؟ هل سيبحث أحدهم عن مبررات لإسرائيل؟ وبما أن عالمنا اليوم يشجع الأبحاث الافتراضية فلنفترض أن إسرائيل (لاسمح الله) تمكنت من التخلص من "حزب الله" ومن "حماس" ومن كل القوى الوطنية المقاومة المعطلة للمشروع الصهيوني، وأن سوريا أعلنت أنها غير معنية بالحقوق العربية، وآثرت السلامة وانتحت جانباً، وأن الفلسطينيين تنازلوا عن حق العودة وقبلوا أن يتحول المسجد الأقصى إلى هيكل، وأن تصبح القدس عاصمة لإسرائيل، وأن تبقى المستوطنات في الأرض الفلسطينية، وأن يبقى الجدار الفاصل، وأن تبقى إسرائيل بلا حدود دولية معلنة، وأن العرب قبلوا التخلي عن كونهم عرباً وأعلن كل واحد منهم انتماءه إلى طائفة أو مذهب أو عرق أو شركة شرق أوسطية، ولنفترض أنهم أعلنوا التخلي عن الإسلام ما دام متهماً بالإرهاب وداعياً للعنف (كما يقولون) وليقل لنا من يريدون هذا التخلي كيف سيكون حالنا ومصيرنا، إن حدث ذلك، وهو لن يحدث، ولكن هل هذا ما يريدون؟ أعتقد أن الأمة بحاجة ماسة لمواجهة الأسئلة الكبرى، على الأقل لتحديد ضوابط لمعنى التضامن العربي، في وقت بات فيه سفير دولة عظمى يتحكم بمصير البلد الذي يفترض حسب القوانين الدولية أنه ممنوع من التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الذي يمثل بلاده فيه. لكن الانتهاك بلغ حد تهديد من لا يذعن للإرادة الغربية في رسم الشؤون الداخلية لبلد عربي، وبلغ حد الترغيب لسوريا من رئيس دولة كبرى بصلة متينة عالية إذا هي قدمت مساعدة لدولة أجنبية كي تتحكم بمصير بلد عربي، وبالطبع سيكون هذا التحكم من أجل إسرائيل ولصالحها. ولا يغيب عن بال أحد أن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا معنيون بإسرائيل وليسوا معنيين بأحد من العرب، وهذا ما أثبتته التجارب. بل إن كثيراً من قادة الغرب محكومون علانية من اللوبي الصهيوني العالمي، ولعل سر ضعف موقف الرئيس بوش اليوم هو بدء العد التنازلي في تخلي الصهيونية عنه لأن موعد رحيله يقترب. ولقد تابعنا موقف إسرائيل من الرئيس كلينتون قبيل رحيله، ورأينا كيف نسي اللوبي الصهيوني خدماته الجُلَّى لهم، وسهره الليالي وهو يتابع المفاوضات التي لم تفضِ إلى شيء، لأن الإسرائيليين لم يقدموا له أي موقف يساعده على فعل شيء يذكره التاريخ به، بل إن هذا اللوبي ودَّعه بفضيحة مسَّت كرامته الشخصية، كما فعلوا مع كثير ممن سبقوه، ولا ندري ما يخبِّئون لبوش قبل أن يحل موعد رحيله!