لم يعد أحد يجادل، في ظل الأحداث الكبرى التي يصطرع بها العالم اليوم، أن طبيعة الصراعات قد تبدلت وصارت تكتسي طابعاً دينياً واضحاً يزيد من تعقيد الوضع على الساحة الدولية ويهدد بتفجر الحروب بين أتباع الديانات المختلفة. هذه الخطورة سبق أن تنبه لها "صامويل هانتنجتون" في كتابه "صدام الحضارات" ويعيد تأكيدها المؤلف والضابط الأميركي المتقاعد "رالف بيترز" الذي نعرض كتابه الموسوم "حروب الدم والإيمان: النزاعات التي ستشكل القرن الحادي والعشرين". وإذ يقر المؤلف بدور الدين في إشعال الحروب بين الحضارات المختلفة، كما توضح أمثلة البلقان وأفريقيا والشرق الأوسط... فهو لا يحصر الصراع فقط بين أتباع الديانات المختلفة، بل يوضح أن الحروب كثيراً ما تبدأ أولاً من داخل الأديان نفسها. فتمرد المتطرفين الإسلاميين على الغرب، يحجب في رأيه ذلك الصراع الديني الأشمل الذي يميز القرن الحادي والعشرين، والدائر ليس بين الأديان، بل أيضاً بين أتباع الدين الواحد. وبخلاف الدارسين الذين تناولوا ظاهرة الصعود الديني في العقود الأخيرة واعتبروها مسألة إسلامية بامتياز، يرى "رالف بيترز" أن الديانات الأخرى، مثل المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، لم تسلم هي الأخرى من تصدعات داخلية. هذه التصدعات مسؤولة عن نشوب صراعات دموية يرجعها المؤلف إلى التنازع بين تفسيرين مختلفين للدين: أحدها يركز على الجانب العقابي والطقوسي في الدين، والآخر يرى فيه الرحمة واليسر. وإذا كانت الاجتهادات المختلفة التي تقارب الحقيقة الدينية وتدرس تفاعلها مع عالم متغير، قد لا تقود بالضرورة إلى حروب، فإنها تسمم الأجواء وتوتر العلاقات بين أبناء الدين الواحد. ولا يريد المؤلف لقرائه أن يغفلوا عن الضحايا من المسلمين الذين سقطوا على يد الحركات الإسلامية المتطرفة والتركيز على تلك العمليات التي نفذت في كبرى المدن الغربية واسترعت انتباهاً عالمياً واسعاً. فبالقياس إلى ما يحدث في العراق اليوم بين أتباع الدين الواحد والجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، تبهتُ هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. وبخصوص الحركات المتشددة في الإسلام يشير المؤلف إلى ذلك الانتقال من الأصولية، بما هي تركيز على الأسس الدينية والاكتفاء بالتذكير بالحياة الآخرة والتعاليم الدينية المتعالية عن شوائب الدنيا، إلى التعصب ثم التطرف. هذا الانتقال من حالة دينية صرفة تركز على الفرد وعلاقته بالخالق إلى حالة أخرى أكثر عنفاً، هي ما يميز الوضع الراهن للواقع الديني في العالم، وإن كان يظهر بشكل أوضح في المجتمعات الإسلامية. ووفقاً للمؤلف فإن العالم يشهد انتقالاً من الفرد المؤمن المكتفي بإيمانه الذاتي إلى الفرد الساعي إلى فرض التدين على المجتمع والمتعصب لاجتهاداته الخاصة، ومن الأصولي الذي يهتم بما بعد الحياة ويحذرنا من سيئات أعمالنا في الآخرة، إلى المتعصب الذي يحذرنا من عواقب سلوكنا في الهنا والآن. لكن في ظل الإخفاق الشامل الذي تعانيه منطقة الشرق الأوسط، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، يتنامى خطر التعصب ويجد له تربة خصبة في أجواء تفشي الفقر وانعدام الديمقراطية. وبعيداً عما يقع داخل البلدان الإسلامية من صراعات أساسها الانتقال إلى التفسير العنيف للدين والسعي إلى فرض تعاليمه بالقوة، يتجه المؤلف أيضاً إلى الحديث عن مجتمعات أخرى، مشيراً في هذا الصدد إلى تنامي الظاهرة الدينية في الولايات المتحدة وإلى سعي المحافظين لفرض أجندتهم على السياسيين. وهكذا وبدلاً من الانكباب على القضايا التي تهم المواطن، طفت إلى السطح موضوعات جانبية مثل الإجهاض والزواج المثلي، لتحريك العواطف الدينية المتشددة. لكن المؤلف يلفت النظر أيضاً إلى المعتقدات التي كانت تعتبر مسالمة بطبعها، وإلى تفشي الاحتجاجات العنيفة في صفوف القساوسة، فضلاً عن الاعتداءات التي ينفذها المتطرفون الهندوس في الهند ضد المساجد في المناطق ذات الغالبية المسلمة. فحسب الكاتب لا ينحصر المد المتشدد والمنذر بالصراعات الداخلية في حضارة أو دين بعينه، بل أصبح ظاهرة عابرة للحضارات. وكلما توسعت لائحة المحرمات في ثقافة معينة زادت احتمالات الاحتقان الداخلي وحلَّت الأزمة. والمشكلة في نظر الكاتب تكمن في إنزال المتعالي من الدين إلى واقع يصبح فيه الدين وسيلة للارتزاق السياسي وتجييش الرأي العام. لكن ما هو السبب في تنامي ظاهرة التشدد الديني وتفشي الصراعات الدموية؟ للإجابة عن السؤال ينتقل بنا المؤلف للحديث عن العولمة التي يعتبرها المفتاح الرئيسي لفهم الصراعات المنتشرة حالياً في بعض مناطق العالم. فرغم الفرص التي تتيحها العولمة للتلاقح الثقافي نتيجة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فإنها أيضاً سلطت الضوء على مكامن الاختلاف والفوارق الحضارية. يُضاف إلى ذلك أن التدفق الكبير للمعلومات وتضاربها أحياناً، لاسيما أنها تكاد تقتصر على دول الشمال، دفع بأبناء الشعوب والثقافات الأخرى إلى التمترس وراء مقولة الخصوصية الثقافية والهوية القومية. فالعولمة، كما يقول المؤلف، فرصة للإنسان المؤهل ثقافياً ونفسياً والواثق من نفسه وقدرته الذاتية على التنافس والبقاء على قيد الحياة، أما بالنسبة لغير المؤهل فإن العولمة تتحول إلى مسعى لتنميط الثقافات وفرض نوع من الهيمنة الحضارية على شعوب العالم. وفي ضوء الهجمة "العولمية" الكاسحة تتخندق الثقافات وراء خطوط دفاع ثقافية ودينية. لكن بينما استطاعت ثقافات بعينها التفاعل الإيجابي مع العولمة والاستفادة من منجزاتها، مثل الثقافة الهندية التي كيفت نفسها مع الظروف العالمية الجديدة دون أن تفقد خصوصيتها ودون اللجوء إلى العنف أو المبالغة في استحضار الخصوصية والتقوقع على الذات... هناك ثقافات أخرى فشلت في التأقلم ولجأت إلى التشدد الديني! زهير الكساب الكتاب: حروب الدم والإيمان: النزاعات التي ستشكل القرن الحادي والعشرين المؤلف: رالف بيترز الناشر: ستاكبول بوكس تاريخ النشر: 2007