حين تعود واشنطن إلى العمل مجدداً في الأسبوع المقبل، إثر انتهاء عطلة "يوم العمال"، فإنه من المتوقع أن ينشغل اثنان من كبار مسؤولي البيت الأبيض ومن أكثر المقربين إلى الرئيس جورج بوش بجمع أغراضهما وأشيائهما الخاصة استعداداً لمغادرة منصبيهما في الإدارة الحالية. أولهما كارل روف، المستشار السياسي الأكثر أهمية بالنسبة لبوش، إلى حد أنه لقب بـ"عقل بوش"، وذلك بعد أن فضل مغادرة البيت الأبيض لإمضاء مزيد من الوقت مع أسرته، وربما للحصول على دخل مالي أفضل مما يتقاضاه حالياً. أما المسؤول الثاني فهو المدعي العام الأميركي، البيرتو جونزاليس، وهو أيضاً من أشد المقربين إلى الرئيس بوش منذ أن كان الأخير حاكماً لولاية تكساس، وقد آثر الاستقالة من منصبه هو كذلك. لكن من المهم أن نضيف إلى ما سبق أن كلاً من الرجلين كان عبئاً على بوش أثناء استعداده لقضاء آخر ما تبقى له من ولايته الحالية، أي فترة العام ونصف العام القادمة. ولعل اتهام كلا الرجلين بالتلاعب السياسي بالنظام القضائي الأميركي، يجيء في مقدمة وأخطر الانتقادات التي وجهت إليهما حتى الآن. ومن بين القضايا التي تورط فيه جونزاليس، كونه طرفاً في الجهود التي بذلتها الإدارة لتجاوز الكونجرس والتحايل عليه في تمرير إجراءات من شأنها فرض رقابة مشددة على المواطنين الأميركيين، وذلك في إطار الحرب الأميركية المعلنة على الإرهاب. وعلى الرغم من أن كل الذي يثار ضد الرجلين لم يبلغ حد توجيه الاتهام الرسمي بعد، إلا أنهما ليسا في حصانة ولا منجاة تامة من القانون، طالما أنهما سوف يصبحان مواطنين عاديين قريباً جداً. هذا وقد عُدّ روف أذكى مستشار سياسي دخل البيت الأبيض، على نقيض زميله جونزاليس الذي طالما نظر إليه الكثيرون على أنه أفشل محام يعلو هرم المهنة خلال عقود عديدة من التاريخ الأميركي الحديث. وبالنتيجة فقد خسر جونزاليس مصداقيته أمام عدد من كبار القادة الجمهوريين في الكونجرس، مما ألحق الدمار بمنصبه في وزارة العدل التي شهدت بدورها كثيراً من الأخطاء خلال الأشهر القليلة الماضية، بينما تدنت الروح المعنوية للعاملين فيها إلى حد غير مسبوق. وعند النظر على نحو متوازن إلى مغادرة هذين المسؤولين، فربما كانت خيراً للرئيس بوش. ذلك أنه لا يزال بوسعه استدعاء كارل روف لاستشارته في أي وقت يشاء، في حين يُتوقع لوزارة العدل أن تشهد تحسناً ما في أدائها خلال الفترة المقبلة. وأياً كان الشخص الذي سيخلف جونزاليس في منصبه، وهو لم يحدد بعدُ حتى لحظة كتابة هذا المقال، فإنه لامناص من أن يكون مقبولاً لدى الكونرجرس الذي يسيطر عليه "الديمقراطيون"، وتحوم فيه كثير من الشكوك حول سلوك إدارة بوش على نحو ما حدث خلال فترة جونزاليس. ولهذا السبب فإنه ينبغي أن يكون المدعي العام الجديد محامياً مشهوداً له بالخبرة والكفاءة المهنية، فضلاً عن استقامته وحسن مهاراته القيادية، إلى جانب تحليه بالحصافة السياسية. وإلى جانب هذه المتطلبات، فإن من المفضل ألا يكون من بين الأصدقاء المقربين للرئيس بوش. هكذا، ووفقاً لرؤية البيت الأبيض وتقديراته، فإن من المتوقع أن يكون شهر سبتمبر المقبل فاتحة لتحسن أداء الرئيس بوش خلال الأشهر القليلة المتبقية له من ولايته الثانية. والأمل في هذا معقود بالطبع على أن يكون التقرير الذي سوف يقدمه الجنرال ديفيد بترايوس وزميله السفير الأميركي في العراق رايان كروكر، من المراوغة والالتباس بحيث يخرس ألسنة أشد منتقدي الحرب داخل الكونجرس ويمنعهم من الحصول على ما يكفي من الأصوات لتمرير تشريع جديد من شأنه وضع قيود وشروط على الاستراتيجية الأمنية التي يجري تطبيقها حالياً في العراق، إلى جانب تقييدها لأعداد القوات المنتشرة حالياً هناك. إن حدث ذلك فإنه سوف يعطي بوش فرصة لإطلاق مبادرة جديدة، فضلاً عن القدرة على تصحيح الأخطاء التي ارتكبها سابقاً في هذا الشأن. وربما تشمل تلك المبادرة، إجراء انسحاب رمزي وشكلي ومحدود للقوات المنتشرة حالياً في العراق، في وقت قريب جداً، بما يتسق والتوصيات التي نصح بها السناتور جون وارنر، العضو الجمهوري البارز في لجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ. وفيما لو قُدّر لبوش إخراس أصوات منتقدي الحرب ومعارضيها، إلى جانب العمل مع مستشارين ومساعدين جدد أقل إثارة للخلاف والجدل، فربما يتمكن من فرض تأثيره على أجندة العمل القومي في عدة قضايا رئيسية، بما فيها حماية البيئة وكفاءة استهلاك الطاقة ونظام الرعاية الصحية. وإذا ما تحقق له هذا، فإن ذلك سوف يخلد ذكرى إدارته ليس بصفتها "بطة كسيحة" وإنما لكونها ظلت فاعلة ونشطة حتى يومها الأخير. غير أن المشكلة هي أن البيئة الأمنية السائدة حالياً يرجح لها أن تواصل هيمنتها على بقية الأجندة حتى اليوم الأخير من عمر هذه الإدارة. ولهذا السبب فإن إحداث أي تطورات سياسية إيجابية في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يزال يتطلب جهداً كبيراً لامناص من أن ينخرط فيه الرئيس نفسه على نحو مباشر. وفيما لو تصاعدت الحرب العراقية الجارية الآن، أو تفجرت المواجهة العسكرية بين واشنطن وطهران، أو في حال وقوع هجمات إرهابية جديدة في أميركا نفسها، فإن المرجح أن تتحول الأيام المتبقية من عمر الإدارة الحالية إلى رهينة للأجندة الأمنية التي يتعين عليه تسليمها حتماً لخلفه الذي سيتولى المنصب الرئاسي بحلول عام 2009. وما لم يشهد الوضع الأمني والسياسي في العراق تقدماً كبيراً وملحوظاً، فأغلب الظن أن سحابة داكنة سوداء ستخيم في سماء عهد الرئيس بوش، ربما يعجز حتى مؤرخو المستقبل عن تنظيفها وإزالتها.