لعل أكثر الصور إثارة للاهتمام في الاضطرابات المالية التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، هو ما حدث في مدينة "كالاباساس" بولاية كاليفورنيا خلال الأسبوع الماضي. فهذه المدينة هي مقر شركة "كنتري وايد" المالية التي تعد في الوقت ذاته أكبر شركة عقارات أميركية. وكما جاء في التقارير، فقد تكرر "حصار" المودعين لأحد ممثلي الشركة في المدينة يوم الخميس الماضي، واشتدت مطالبتهم له باستعادة أموالهم التي أودعوها في خزانة الشركة. وفي اليوم التالي تكررت مشاهد شبيهة مع مسؤولين وممثلين آخرين للشركة في فروعها المنتشرة في المدن والضواحي. وفي تقرير لوكالة "رويترز" قال أحد هؤلاء المودعين: "لست أعلم كثيراً عما حدث خلال فترة الكساد التي شهدها عقد الثلاثينات، غير أن الذي يحدث اليوم، يشبه تلك الفترة كثيراً فيما يبدو". ورغم أنه ليس مستبعداًَ أن تكون الصحافة قد أضافت جرعة من المبالغة والتضخيم لما هو حادث بالفعل، إلا أنها قدمت من الصور ما يلخص جزءاً من حقيقة أداء الأسواق المالية اليوم. ذلك أن الفوضى التي تشهدها هذه الأسواق، أصبحت من العشوائية وإثارة الخوف والقلق في نفوس المستثمرين، إلى درجة تشبه كثيراً حالة الاضطراب التي مرت بها البنوك التقليدية سابقاً. ولعل ما يحدث الآن في هذه الأسواق، يذكرنا مجدداً بأهمية هذه الأسواق باعتبارها أدوات لا غنى عنها في تحديد المخاطر المالية وتوجيه رؤوس الأموال بناءً على درجات الخطر المالي هذه، لاسيما بالنظر إلى سرعة التقلبات وقصر الفترات التي تحدث فيها مثل هذه الاضطرابات المالية. ولكي ندرك هذه الأهمية، يمكن أن نمعن النظر في واقع شركة "كنتري وايد" اليوم، مع العلم أنها الشركة الممولة لكل واحد بين خمسة من المنازل والعقارات المشتراة عن طريق الرهن الأساسي وليس الفرعي المحاط بكثير من المخاطر عادة. ورغم الموقف المالي والاستثماري الجيد للشركة المذكورة، إلا أن أسعار أسهمها في أسواق المال قد انخفضت بمعدل النصف تقريباً منذ حلول العام الحالي. وبفعل ذلك الانخفاض الطارئ والمريع، فقد أصبح من اليسير على مشترٍ مَّا أن يشتري الشركة نفسها بتكلفة أقل كثيراً مما تصل إليه تكلفة شراء أصولها. وكأن الأمر يشبه هنا، شراء بنك ضخم عملاق بتكلفة أقل من شراء النقود المعدنية التي تحويها خزائنه! وإذا كان هذا الاضطراب الذي شهده الأداء المالي لشركة "كنتري وايد" قد نجم عن الضربة التي تلقتها من أسواق المال، فإن مصيرها في سوق الديون لابد أنه أسوأ من ذلك بكثير. ووفقاً لرأي المحللين والمراقبين الماليين، فإن للشركة من السيولة النقدية ما يمكنها من سداد أي التزامات مالية عليها لأي كان، ولمدة تصل عاماً كاملاً. غير أن المشكلة التي تواجهها أن دائنيها الذين اعتادوا شراء سنداتها القصيرة الأجل، وهي السندات التي تطلق عليها تسمية "الأوراق التجارية"، كفُّوا الآن عن شراء تلك الأوراق. وبصرف النظر عما إذا كانت صور المطالبة والاحتجاج على تدني الأداء المالي للشركة، على نحو ما ورد أعلاه، هي مجرد مقدمة لما سوف تواجهه الشركة مع عملائها ومستثمريها أم لا، فإن مما لا ريب فيه أنها تعاني صعوبة كبيرة في تسويق أوراقها التجارية، وهي الأوراق التي يعتمد عليها النمو المالي للشركة واستثماراتها. وهكذا نستنتج أن الأسواق قد فرضت عقوبة مالية غير راشدة على "كنتري وايد" وعلى الكثير غيرها من كبريات الشركات الأميركية. ورغم تبرم صقور التضخم المالي ورفضهم لاتجاه كهذا، إلا أنه كان يتعين على البنك الفيدرالي أن ينشئ شريان حياة جديداً لنظامنا المالي اعتباراً من يوم الجمعة الماضي. ويتطلب إنشاء شريان على ذلك النحو، التخفيف من الشروط التي يطالب بها المؤسسات المالية عادة، من أجل الحصول على القروض التي تطلبها منه، إلى جانب الإعلان من جانبه عن الاستعداد لخفض معدلات الفائدة المفروضة على تلك المؤسسات إن لزم الأمر. بيد أن مسؤولية البنك الفيدرالي إزاء اتخاذ إجراءات حازمة ضد التضخم المالي، إنما تطغى عليها مسؤوليته إزاء الحد من المخاوف المالية. وفي الحالات التي يرفض فيها المستثمرون والعملاء إيداع أموالهم في المؤسسات المالية، مفضلين احتفاظهم بها خارج تلك المؤسسات، فإن من واجب البنك الفيدرالي أن يلعب دور الدائن الأخير الذي تلوذ به المؤسسات المالية لفك الضائقة التي تعانيها. ولكن اللغز المحير هنا هو: لماذا ساد كل هذا الهلع المالي في الأساس، طالما أن الافتراض العام هو أن تكون الأسواق المالية فاعلة وعلى درجة من الكفاءة والأهلية؟! فإذا ما غادرت رؤوس الأموال الراشدة خزانات مؤسسات كبيرة مثل شركة "كنتري وايد"، فإن على رؤوس الأموال الذكية أن "تشم" رائحة الفرص الاستثمارية التي لاحت لها فجأة في الأفق، فتسارع إلى إنقاذ الموقف المالي. ولكي نطمئن ونطرد بعضاً من مشاعر الهلع هذه، فلنقل إن نوعاً من هذا الإنقاذ المالي، تشهده أسواق المال فعلياً الآن. ولعل هذا هو ما يفسر الارتفاع الطفيف الذي حدث لأسعار أسهم شركة "كنتري وايد" مؤخراً. وهذا هو ما يعينها على استرداد عافيتها وقوة أدائها المالي في السوق، ما أن تتجاوز موجة الاضطراب القصيرة هذه. فالسمة العامة لاقتصادنا هي الرشد والاستقرار. سباستيان مالابي كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"