الصيف موسم اللاحدث السياسي... في الماضي. ونقول عن ذلك في مصر أيضاً: كان "زماااان". فعلاً: استجاب هذا الصيف لمطلبنا بالعودة للتقاليد والأصول.. لم تنفجر أزمات عظمى مثل الغزو العراقي لإيران في سبتمبر 1980، أو الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990. الحدثان معاً شكلا حالتيْ "الانزلاق الغضروفي" الأول والثاني في "النظام العربي" (هل لا يزال هذا الاسم صالحاً بعد أن أصبح العمود الفقري غير صالح للاستعمال؟). ولم يقع غزو إسرائيلي مماثل في العنف وشدة الجرم مثل الضربة الإسرائيلية للبنان في بداية صيف العام الماضي. وكشف الحادث عن حالة الفلج التي ألمَّت بالـ"كيان العربي؟" وأعجزته عن القيام بأي رد فعل منسجم ولو بالكلام. والواقع أن الأحداث السياسية الكبرى لم تكن تستأذن أحداً في ميعاد وقوعها. فبعض أهم الحروب والغزوات والأزمات والأحداث الكبرى الأخرى في التاريخ وقعت في الصيف، وتداعت فيما شاءت لها تصاريف القدَر من شهور شمسية أو قمرية ومن فضاءات جغرافية في أي من قارات العالم الست، أو فيما بينها من محيطات وبحار. وكيف يستأذن القدَر من عماله وضحاياه؟ كل ما حدث أن شهور الصيف صارت موسم الإجازات للسياسيين وصناع القرار, وهذا ذاته تقليد استحدثته العادات الذهنية المرتبطة بالديمقراطية التي انتشرت في العالم ولا زالت غريبة عن بلادنا. المعنى: أن السياسيين مثل غيرهم من خلق الله موظفون بأجر عند الدول والشعوب ولهم الحق في إجازة! قبل ذلك كان الحكام التقليديون يشعرون بالبطالة أو العطالة في معظم الأوقات، وأحياناً يعملون كل الأوقات. المهم أنهم كانوا من يحددون ماذا وكيف يعملون ومتى لا يعملون, بل لم يكن "عملهم" يُسمى عملاً أو وظيفة. فحتى في أوروبا التي لم تنتج طغاة كباراً إلا على سبيل الاستثناء بسبب رواسب النظام الإقطاعي كانوا يسمون "سادة" أي أسياد البلاد. ومن حسن حظ الغربيين صار الساسة موظفين، أو كما يترجمها إخواننا في المغرب الكبير: خدماً عموميين بـ"الأكرة" أي الأجر! ومن ثم صارت لهم إجازات. الموضوع ليس عن الإجازات الصيفية..بل عن هذا الصيف الذي نشهد أنه لم يلقِنا حتى الآن أرضاً بأحداث كبيرة. ونطلب من الله الستر والمغفرة. ولكننا نشهد أيضاً أن "اللاحدث" في هذا الصيف بالذات صار "حدثاً". إن لم يحدث لك شيء بالصيف فستخسر على الأقل بعض العرَق.. وهذا حدث. أما ما حدث ويهمنا في صيف هذا العام فهو أن كثيراً من الحكومات في العالم ككل وفي العالم العربي بالذات فقدت كثيراً من الوزن.. وهو حدث أهم كثيراً من مجرد خسارة العرَق أو فقدان الخجل. أهم من خسر كثيراً جداً من الوزن هو السيد بوش وشلَّته ليس فقط في الإدارة، وإنما أيضاً في الكونجرس. وكان "الديمقراطيون" قد أهانوه كثيراً بالدق بقوة على مسألة سوء الإدارة السياسية، وطلب الانسحاب من العراق.. الخ. وأخيراً اضطر السيد جونزاليز وزير العدل للاستقالة بعد هجوم متواصل على شدة الانتهاكات التي ترتكبها الإدارة لحقوق الإنسان. ثم دهمت فضيحة أخلاقية السيناتور "الجمهوري" لاري كريج المعروف بتأييده المتحمس لبوش وعائلته وللأخلاق المحافظة الشديدة, في ضربتين متلاحقتين لـ"الجمهوريين عموماً". لنترك بوش مع أزمته دون أي دعاء للرفق بعد أن خسر البقية الباقية من وزنه السياسي، لنلتفت قليلاً للعرب كما ينحصنا أشد الناس في بلادنا إخلاصاً.. وهؤلاء لهم حق إن قالوا: انظروا للخشبة التي بأعينكم قبل أن تلاحظوا القشة التي بأعين الآخرين. هنا في منطقتنا من العالم فقدت حكومات عربية كثيرة وزناً إضافياً وصارت مؤهلة على الأكثر للعب في وزن الريشة. في مصر ثارت أزمات العطش والغلاء والتعذيب وقرارات بيع بضع شركات وبنوك وطنية إضافية, فوق أزمة السكن وخاصة بعد هجوم المستثمرين على ما بقي للفقراء من أراضٍ. والأزمات الصيفية التي قد تنفجر في مصر أكثرها يتعلق بالحياة العادية، ليس لسبب يخص هذا البلد العربي الكبير وحده، بل ولأن السياسة في العالم صارت فيما يرى البعض كذلك: تتعلق بالأكل والشرب والسكن والصحة أولاً. إلا أن أزمات سياسية بعينها سببت أيضاً هزالاً شديداً للحكومة: أزمة تعذيب المصريين على يد حكوماتهم، وحكومات دول عربية شقيقة أيضاً. ثم إن أزمة القبض المتكرر على قمم من حركة "الإخوان المسلمين" ومحاكمة بعضهم أمام محاكم عسكرية دون سبب محدد أو جرم ما، وقعت هذه الأزمة أيضاً على رؤوس الناس كمفاجأة من حيث فقدان الحكمة السياسية في هذا الصيف بالذات. وفي ليبيا خسرت الحكومة بعض الوزن أيضاً وإن لم يلاحظ الناس في العالم العربي ذلك بدقة.. لأن العجب صار ندرة بعد أن تعجبنا كثيراً جداً في مناسبات متلاحقة لعقود من الزمن. وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على الناس بأن يتعودوا حتى لا تلقيهم المفاجآت مغشياً عليهم كل صيف عدة مرات. الوزن الذي فقدته الحكومة هنا.. مع الاعتذار عن اضطرار البعض مثلي لاستخدام هذا التعبير.. نتج عن صفقة الممرضات البلغاريات. "الحقيقة" في الموضوع كله مهمة للغاية.. ولكن ما لا يقل أهمية بالنسبة لحسابات الصيف هو اعتراف نجل القائد أنهن –في هذه الحالة الممرضات، اضطررن للاعتراف بجرم نسبته لهن: الحكومة؟- وذلك تحت التعذيب! والحقيقة أنه كان من الواجب أن نسمع أيضاً اعترافاً بأن التعذيب شائع في ليبيا بين ممرضات وممرضين وبشر من جميع المهن رجالاً ونساءً لسنوات طوال جداً، وأن الاستثناء أن يكون هؤلاء جميعاً من البلغاريين أو من الأجانب الآخرين. فحكوماتنا العربية تؤمن بالمثل القائل إن جحا أولى بطيره, وإن على كل حكومة أن تعذِّب مواطنيها الخصوصيين! "نحن في الهمِّ شرق" مقدمة ضرورية للدخول في دائرة المحظور بملاحظة أن الحكومة السورية أيضاً فقدت كثيراً من الوزن هذا الصيف لنفس السبب التقليدي: اعتقال خلق الله والتنكيل بهم، ولو كانوا من المثقفين العرب الأعلى كعباً في مجالات شتى. والمحظور هنا بالنسبة لمتعاطف بعمق مع الفكر القومي الديمقراطي أن يلاحظ أي شيء على الحكومة السورية، ولو أن لون "الكرافت" تغير بأثر العرق حتى لا تتهم بممالأة الأميركيين، وهو اتهام مرفوع بالنسبة للكثيرين وأنا منهم، ولكنه لا يكف عن التردد بصدى قديم. لنضعها بأكبر قدر من الحيطة بعد توجيه قدر لا بأس به من الشتائم للحكومة الأميركية الغازية لبلادنا العربية: فقدت الحكومة السورية كثيراً جداً من الوزن لاستمرار احتجاز مثقفين ومفكرين وشخصيات عامة عربية مرموقة بين الجميع بما يعرض حياتهم للخطر. حتى صديقتي الحكومة المغربية فقدت هذا العام شيئاً من الوزن بدورها, بعد أن شعر الجميع بالتوقف والتبيُّن الذي أجرته فيما يتعلق بالحريات العامة بمصادرة الصحف وتجريم صحفيين على أفعال لم يعد القانون العام يعاقب عليها في أي بلد ديمقراطي في العالم. أشهد أن صديقتي الحكومة المغربية لا زالت تتمتع ببعض الوزن الذي كسبته بفضل "التناوب الديمقراطي". وسوف ننتظر لنرى ما إذا كانت ستجرى انتخابات نزيهة أم "مضروبة" في المستقبل القريب لنقدر الوزن المناسب لها في دوريِّ الملاكمة المفتوح للتناوب على ضرب المثقفين هذا الصيف وفي الموسم المقبل. الطريف أن بعض الحكومات العربية الأخرى لم تفقد أي وزن لسبب معروف للغاية وهو: لم يكن لها أي وزن. وبذلك يبقى الاستثناء رائعاً حقاً بل وشاذاً: قليل من الحكومات العربية احتفظت بوزنها أو بصريح العبارة: بهيبتها واحترامها..