يقول الدكتور مأمون أمين زكي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة "ممفس" في الولايات المتحدة الأميركية، عن كتابه "صعود وتراجع المشروع الصهيوني"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، إنه شرع في إنجاز هذه الدراسة عقب حرب أكتوبر 1973 مباشرة، ليجد نفسه وسط عدد هائل من المعلومات والحقائق والأفكار والآراء، وأيضاً من الأوهام والأساطير والأكاذيب والدعايات. وبالفعل فقد استند الكتاب إلى مئات المصادر والمراجع والوثائق، مستقصياً الفكر الصهيوني بالاعتماد على الكتب والمذكرات والرسائل التي كتبها رواد المشروع الصهيوني، وكذلك الكتاب الذين عارضوهم من اليهود وغير اليهود. ويعلن المؤلف منذ البداية أنه لا يهدف من وراء كتابه لإيجاد حلول أو طرح آراء لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي -وهو صراع سيظل جرحاً نازفاً في الجسد العربي ما بقيت فلسطين محتلة- وإنما الهدف الأساسي للكتاب هو سبر الظروف التاريخية التي أدت إلى ولادة وصعود المشروع الصهيوني ومن ثم انكماشه وتراجعه خلف جدار عازل. لكن قبل ذلك يفصّل المؤلف كثيراً ويغوص في أحداث التاريخ، مستعرضاً هجرة اليهود إلى أرض كنعان (فلسطين) بقيادة يوشع بن نون الذي قادهم بعد وفاة نبي الله موسى. ويقسم الكتاب تلك المرحلة إلى ثلاثة عهود؛ "عهد القضاة" و"عهد الملوك" و"عهد الشتات" الذي بدأ على يدي الإمبراطور الروماني "ديليوس هارديان" عندما قام عام 70 للميلاد بتقتيل اليهود وتحطيم معابدهم ليشيد مكانها معابد وتماثيل رومانية. ورغم تدمير التوراة الأصلية التي نزلت على موسى، فإن حاخامات اليهود قاموا بكتابة توراة جديدة، حسبما ما تذكّروه من "العهد القديم"، وأضافوا له ليساعد على تقوية الروابط والعلاقات الدينية بين اليهود، ولإبراز عقيدة "أرض الميعاد" التي تناقلتها أجيالهم منذ ذلك الوقت، إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل الذي حوّل حلم "العودة" من رغبة مبهمة إلى مشروع متسق ومتكامل الأركان. وكما يقول المؤلف في فصل عن "الاستراتيجية الصهيونية"، فإنها قد اعتمدت على أربع ركائز؛ هي الدعاية الإعلامية وتأثير المال والتطبيع السياسي وجماعات الضغط. وينقل المؤلف عن الإنسيكلوبيديا الفرنسية أنه نادراً ما حظيت مجموعة عرقية أو دينية باهتمام المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللاهوت، كما حظي به اليهود. فتاريخهم مفعم بالاضطهاد والصراعات، حيث كانوا دائماً أقلية وسط أمم أو حضارات أوسع وأكبر منها. لكن في المقابل كان تاريخهم غنياً بالإنتاج الفكري والعلمي الحضاري، لذلك ما إن ولدت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر حتى انتشرت في روسيا القيصرية وأميركا، وفي أوروبا أيضاً حيث حظيت باهتمام كبير بعد أن تبلورت كمشروع أيديولوجي على يدي هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" والذي بشر بـ"رجوع" اليهود إلى أرض فلسطين أو "أرض الميعاد". وقد شهدت السنوات التالية للمؤتمر الصهيوني الأول في مدينة "بال" السويسرية عام 1897، جهوداً كاسحة لإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، وهو ما تحقق عام 1948، وكان إحدى نقاط الذروة في صعود المشروع الصهيوني، كما كانت الجولات العسكرية اللاحقة، والتي ألحقت الهزيمة بالجانب العربي، خاصة حروب 1948 و1967 و1982، لحظات صعود أخرى، إلى جانب الانتصارات السياسية والدبلوماسية والإعلامية المتتالية، لصالح ذلك المشروع. إلا أن انتصار إسرائيل في حرب عام 1967، كما يقول المؤلف، كان أهم حدث في التاريخ اليهودي منذ سقوط أورشليم على أيدي الرومان؛ فقد تحققت معظم الأهداف الأساسية للصهيونية، باكتساب الأرض والمصادر الحيوية الجديدة والتفوق العسكري الكاسح... ولم يبق سوى جلب مزيد من المهاجرين اليهود ذوي الكفاءات العالية. وقد انطلق القادة الصهاينة الرواد، بدءاً من تيودور هرتزل وبن غوريون وحاييم وايزمان وفلاديمير جابوتنسكي، وصولاً إلى مناحيم بيغن واسحق شامير وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو... من تقديرين اثنين؛ أولهما يبالغ في تضخيمه للقدرات المالية والسياسية والاستخباراتية لليهود، كما يتجاهل الحضارة العربية وردود الفعل العربية على عملية الاستئصال والإحلال التي هي جوهر المشروع الصهيوني برمته. أما التقدير الثاني فيفترض أن أجيال اليهود القادمين إلى الدولة الجديدة، سينصهرون جميعاً في مبادئ الصهيونية، بغض النظر عن خلفياتهم التي نشأوا عليها. ويشرح المؤلف بالتفصيل ست خطوات حيوية، متتالية أو متزامنة، ركز عليها قادة المشروع الصهيوني؛ أولها خلق دولة يهودية تحتل كامل أرض فلسطين والأردن وجنوب سوريا ولبنان، وتكون مطلة على البحر الأبيض المتوسط غرباً والأحمر جنوباً. وثانيها إنشاء أكبر وأكفأ قوة عسكرية ضاربة لحماية الدولة وضمان تفوقها باستمرار. ثم خلق نظام اقتصادي اشتراكي يضمن تحقيق الرفاه الذي يستقطب جميع اليهود إلى فلسطين. أما الخطوة الرابعة فبناء نظام سياسي ديمقراطي جمهوري مبني على الانتخاب الحر. وفي الوقت نفسه جعل منطقة الشرق الأوسط مجالاً حيوياً لإسرائيل. وأخيراً إحباط أي تقارب عربي غربي. وكما يفرد المؤلف فصلاً خاصاً لميلاد إسرائيل، فهو يخصص فصلاً آخر لنظامها السياسي، وفصلاً منفصلاً لنظامها الاقتصادي، ويتناول في فصل خاص حرب عام 1956، ويعقد فصلاً لحرب عام 1967، وفصلاً آخر مستقلاً لحرب عام 1973، وكذلك لحروبها ضد لبنان... ليخلص من ذلك إلى أن القادة الصهاينة نجحوا في تجسيد هدفهم الأول متمثلاً في خلق الدولة الإسرائيلية التي أخذت تسير قدماً نحو تحقيق باقي أهدافها، لاسيما بعد الانتصار الذي أوصل المشروع الصهيوني عام 1967 إلى قمته. لكن بعد زوال الردع العسكري عام 1973، وانفجار الانتفاضات الفلسطينية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، والانسحاب المهين من لبنان عام 2000، ثم من قطاع غزة عام 2005، وأخيراً فشل عدوان الصيف الماضي على لبنان... بدأ قادة المشروع الصهيوني يدركون خطل فكرة "إسرائيل الكبرى"، وهي الركيزة الأساسية لذلك المشروع! محمد ولد المنى الكتاب: صعود وتراجع المشروع الصهيوني المؤلف: د. مأمون أمين زكي الناشر: دار الحكمة تاريخ النشر: 2007