يتمثل الاختلاف الأساسي بين الكتاب الجديد للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وعنوانه "العطاء"، وبين كتابه السابق "حياتي"، أن الكتاب الجديد لا يتناول الجانب السياسي من سيرته الشخصية والرئاسية على نحو ما قرأنا من قبل، وإنما يسلط الضوء على المنحى الإنساني العام لتجربته، سواء في مستواها الشخصي المباشر، أم في مستواها المرتبط بالمؤسسة الخيرية العالمية التي أنشأها في إطار نشاطه بعد المرحلة الرئاسية. وبما أن موضوع الكتاب هو العطاء والبذل من أجل الآخرين، فإن من رأي كلينتون أنه بوسع كل واحد منا، وبصرف النظر عن عمره أو دخله أو مهاراته أو الوقت المتاح له، أن يفعل ما من شأنه أن يساهم في تغيير حياة الكثيرين من حوله، سواء قلّ هذا العطاء أم كثر. ويعوّل كلينتون على أهمية هذا العطاء، لكونه يساهم في نهاية الأمر في تعزيز نسيج القيم المشتركة للبشرية كافة، فضلاً عن مسهامته المباشرة وغير المباشرة في تحسين حياة الملايين، وإنقاذهم وحل مشكلاتهم. والكتاب ليس مجرد دعوة طوباوية مثالية في عالم الخيال لتبني النزعة الإنسانية ونشر قيم العمل الخيري، طالما أنه استند إلى نماذج وتجارب عملية، خاضها أفراد ومؤسسات ومنظمات غير حكومية، استطاعت في حالات كثيرة أن تحل محل الحكومات نفسها في التصدي لمشكلات الشعوب وتقديم الحلول الناجعة لها. وليس أدل على ذلك من أهمية الدور الذي تبذله المنظمات والمؤسسات الطوعية الخيرية، وكذلك الأفراد في مكافحة وباء الإيدز والفيروس المسبب له في كثير من المجتمعات، وكذلك في مكافحة الفقر والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، على نطاق العالم بأسره. ولعله من الأوفق هنا أن نستمع إلى بيل كلينتون وهو يشرح فكرته وراء هذا الكتاب بقوله: "لقد بذلت قصارى جهدي في هذا الكتاب، كي أبين ما رأيته بنفسي من خلال نشاط مؤسستي في أفريقيا وفي شتى أنحاء العالم. وقد تبين لي من خلال هذا النشاط أنه بمقدور جميع أشكال البذل والعطاء أن تحدث فارقاً إيجابياً هائلاً في حياة الكثيرين. كما ثبت لي مما رأيت من أعمال خيرية عظيمة يقوم بها الأفراد والمنظمات غير الحكومية، أنه في وسع كل واحد منا أن يفعل شيئاً مفيداً للآخرين، بما يساهم في تغيير وجه العالم والحياة من حولنا، ويعزز القيم المشتركة بين البشرية جمعاء". على أن المؤلف لا يقصر تلك الملاحظات على جهوده الشخصية أو جهود مؤسسته في هذا المجال، وإنما يتناول الجهود العظيمة التي بذلتها مجموعات من الأفراد والمنظمات والهيئات غير الحكومية التي سخرت نفسها لخدمة البشرية عبر العمل الطوعي غير الربحي. كما يبيّن أن التبرع بالوقت والجهد والمهارات، يعادل من حيث الأهمية، التبرع بالأموال والممتلكات لخدمة الأهداف الخيرية. وبهذا المعنى فإن للنشاط الخيري عدةَ أوجه وأشكال، تصب جميعها في خدمة أهداف مشتركة واحدة في نهاية الأمر. والمهم عند التقييم الأخير لدور هذا النشاط أن له دوراً تغييريّاً في الحياة ينفرد به دون غيره من الأنشطة الإنسانية والاجتماعية الأخرى. وضمن القضايا ذات الصلة التي تطرق لها الكتاب وأفرد لها فصولاً كاملة لمناقشتها، إمكانية تنظيم وتخصيص أسواق لخدمة الصالح العام، وكذلك مناقشة دور الشركات والمنظمات التقدمية ذات التوجه الخيري، وتلك الناشطة في مجال حماية البيئة والمناخ العالمي، وإتاحة فرص النمو الاقتصادي والاجتماعي للفئات الاجتماعية الأشد حرماناً وفقراً. كما شملت القضايا التي ناقشها الكتاب، توفير فرص التوظيف المتكافئة والعادلة، ومراعاة المساواة في توزيع الدخل القومي والأجور، إلى جانب خلق بيئة عمل وحياة ملائمة للجميع. ورغم تسليط اهتمامه على دور العمل الطوعي غير الحكومي في هذه الجهود، فإنه لم يغفل دور الدولة وأهميته في ذات الوقت. فمن رأيه أنه ومتى ما صلح نظام الحكم، وأدت الحكومة دورها كما ينبغي له أن يكون، جاء العمل الاجتماعي الطوعي خارج مؤسساتها، معززاً ومكملاً لدورها الذي يفترض أن يكون أساس تغيير المجتمعات والمضي بها نحو الأفضل والأكثر إنسانية. وعليه فإن عملية التغيير الاجتماعي، في شتى جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببذل الجهود لتغيير نظام الحكم نفسه نحو الأفضل. صحيح أن المنحى العام لهذا الكتاب، هو استخلاص الاستنتاجات النظرية العامة القابلة للتطبيق في شتى أنحاء العالم في مجال مزاولة النشاط الطوعي والخيري، إلا أن الجزء الأعظم من هذه الاستنتاجات اعتمد في الأساس على انخراط كلينتون المباشر في هذه الأعمال، ضمن نشاطه في مرحلة ما بعد العهد الرئاسي. هذا ومن المتوقع أن يتجاوز توزيع الكتاب 750 ألف نسخة ورقية، إلى جانب نسخته الإلكترونية التي ستعرف طريقها إلى مواقع الإنترنت، وكذلك نسخة صوتية مقروءة بصوت كلينتون نفسه. وكما هو معلن فإن نسبة من ريع الكتاب وعائداته سوف يتم التبرع بها لبعض المنظمات الخيرية الطوعية التي تؤدي دورها في تغيير وجه الحياة من حولنا. وحسب توقعات كثير من المراقبين والمتخصصين في عرض الكتب والترويج لها، فإن مصدراً رئيسياً لجاذبية هذا الكتاب ولاتساع دائرة قرائه، إنما يتصل بالجاذبية التي يتمتع بها كلينتون، سواء ارتبطت هذه الصفة بفترة رئاسته السابقة، أم بما أضافه إليها من مغناطيسية اكتسبها خلال نشاطه الخيري في سنوات ما بعد العهد الرئاسي. عبد الجبار عبد الله الكتاب: العطاء المؤلف: بيل كلينتون الناشر: مجموعة "نوبف" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2007