الانتخابات الرئاسية هي حديث الساعة الآن، ليس فقط في بيروت، ولكن أيضاً في كل العواصم ذات الصلة بما يحدث في العاصمة اللبنانية. فهذه الانتخابات لا تعني اللبنانيين وحدهم، ونتائجها لا تتوقف فقط على أصوات ناخبيهم، وهم أعضاء مجلس النواب الذي يُفترض أن تبدأ فيه إجراءات العملية الانتخابية اعتباراً من 25 سبتمبر المقبل فيما يطلق عليه مهلة دستورية حتى 23 نوفمبر القادم. فالناخبون الذين سيشاركون في اختيار الرئيس اللبناني الجديد هذه المرة، إلى جانب هؤلاء الأعضاء وربما قبلهم، هم أصحاب القرار في دمشق وإيران والرياض على المستوى الإقليمي، وفى باريس وواشنطن على المستوى الدولي، إلى جانب آخرين قد يضطلعون بأدوار أقل. فالاستحقاق الرئاسي اللبناني يأتي هذه المرة في ذروة الصراع على هوية منطقة الشرق الأوسط ومستقبلها. ولبنان، كما فلسطين والعراق، هو أهم ساحات هذا الصراع حتى الآن. والاستحقاق الرئاسي سيحدد الكثير بالنسبة إلى مستقبل لبنان الذي سيكون له أثر كبير بدوره في رسم معالم مستقبل المنطقة. ولذلك لم يكن رئيس مجلس النواب نبيه بري مخطئاً أو مبالغاً حين تحدث قبل أيام عن ضرورة ترقب الاتصالات الخارجية التي ستجرى حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني لعلها تتيح جديداً يساعد على رفع وتيرة الحركة من أجل إنجاز هذا الاستحقاق في موعده الدستوري، أي قبل نهاية نوفمبر القادم، حيث تنتهي ولاية الرئيس إميل لحود في منتصف ليل 23 من الشهر نفسه. ولكن هل يعني ذلك أنه ليس أمام اللبنانيين المنقسمين بين معسكرين رئيسيين متعارضين (14 آذار و8 آذار) إلا انتظار نتائج الاتصالات الإقليمية –الدولية؟ الجواب يتوقف على قادة هذين المعسكرين ومدى قدرتهم على إيجاد توازن بين مسؤولياتهم الوطنية وعلاقاتهم ومصالحهم الخارجية، حتى لا يدفع لبنان ثمناً فادحاً في صراع أكبر منه وأوسع. فليس واقعياً ولا ممكناً التطلع إلى أن يدير قادة الأحزاب والكتل الأساسية في المعسكرين ظهورهم لحلفائهم وأنصارهم ومشجعيهم في الخارج. فهم يؤمنون، كل بطريقته ومن زاويته، بأن هذه التحالفات وغيرها من أنماط العلاقات إنما هي لمصلحة لبنان أولاً وأخيراً. ومع ذلك يمكن لهم، أو لبعضهم ممن لهم وزن أكبر وتأثير أقوى، أن يعملوا لإنقاذ لبنان من شبح حرب داخلية جديدة تحوم فوقه في حالة فشلهم في التوافق على الرئيس الجديد، وأن يساهموا بذلك في خلق نموذج قد يؤثر في مسار الصراع الأكبر على المنطقة، أو في طريقة إدارته على نحو يمكن أن يجنّب شعوباً أخرى ويلات حرب ضارية. ويقتضي ذلك إيجاد حل لمعضلتين: أولاهما العلاقة بين انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة وحدة وطنية. والثانية المرشح الذي يقبله المعسكران أو القوى الأهم في كل منهما، وإن بدرجات متفاوتة، وتوافق عليه العواصم التي ستشارك في انتخابه. وتعود المعضلة الأولى إلى إصرار معسكر 8 آذار على تشكيل حكومة وحدة يكون له فيها ما يسمى الثلث الضامن (أو المعطل) أي الذي يضمن إصدار القرارات الكبرى التي تستلزم أغلبية الثلثين في مجلس الوزراء بالتوافق بين المعسكرين وتعطيل أي قرار لا يحظى بهذه الأغلبية. ولكن قوى 14 آذار التي تتمتع بأغلبية في مجلس النواب الحالي وبالتالي في مجلس الوزراء الذي تنفرد به الآن بعد انسحاب وزراء ممثلي 8 آذار (حزب الله وحركة أمل)، تدفع بأن الإصرار على حكومة الوحدة أولاً يشكك في نوايا المطالبين بها تجاه انتخابات الرئاسة. وهنا يظهر مدى أثر أزمة عدم الثقة العميقة بين الطرفين. فقد وصل عمق هذه الأزمة ومداها إلى حد يصعب معه، إن لم يستحل، الاعتماد على أي ضمانات متبادلة. ولذلك قد يكون الحل الوحيد في مثل هذه الحالة المستعصية هو التزامن التام بين إعلان تشكيل حكومة الوحدة وانتخاب الرئيس الجديد. ولتحقيق هذا التزامن، ينبغي أن يتم الاتفاق على تشكيل حكومة الوحدة والتوافق على اسم الرئيس الجديد، والحصول على الدعم اللازم لذلك إقليمياً ودولياً، في الوقت الذي يجري التحضير لجلسة مجلس النواب التي ستحدث فيها مراسم الانتخاب الرئاسي ويُعلن خلالها أيضاً عن الحكومة الجديدة. وإذا أمكن الاتفاق على التزامن بهذا الشكل، يبقى اسم المرشح الرئاسي الذي يمكن أن يتوافق عليه المعسكران أو القوى الرئيسية في كل منهما. فتوافقهما شرط لا غنى عنه لأن أياً منهما لا يمتلك أغلبية الثلثين اللازمة لبدء إجراءات العملية الانتخابية. ويقتضى ذلك أن يكون مرشح التوافق من خارج المعسكرين معاً، أي لا ينتمي إلى أي من أحزابهما، وليس محسوباً على أي منهما في الوقت نفسه. ويعني ذلك استبعاد الأسماء المطروحة الآن من المعسكرين، وأهمهم العماد ميشال عون زعيم "تيار التغيير والإصلاح" (أحد أركان معسكر 8 آذار) والمرشح الوحيد في هذا المعسكر حتى الآن. واستبعاد العماد عون يمثل معضلة كبرى في حد ذاته لأن حلمه بقصر بعبدا هو المحرك الوحيد لسلوكه السياسي ودافعه الأول إلى الالتحاق بمعسكر 8 آذار. ومع ذلك يبدو أن حليفيه حسن نصر الله ونبيه برى مستعدان لاستبعاده في حالة وجود مرشح محايد مقبول، بخلاف مسيحيي معسكر 14 آذار الذين يصرون على أن يكون لهم القول النهائي في اختيار الرئيس القادم وفق ما صدر عن اجتماعهم في مقر زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع يوم 20 أغسطس الجاري. وفي هذا المعسكر عدد من الطامحين مثل النائب بطرس حرب الذي بادر بإعلان ترشحه، والنائب روبير غانم الذي اعتبر أن إعلان ترشيحه عام 2004 (حين حدث التمديد للرئيس إميل لحود لمدة ثلاث سنوات) مازال سارياً، ووزير العدل شارل رزق وغيرهم. ولذلك فالاختبار الحقيقي لزعماء المعسكرين هو مدى قدرتهم على التوافق على مرشح مستقل. إنه اختبار صعب لزعيم "حزب الله" حسن نصر الله، وربما أيضاً لزعيم حركة "أمل". وهو اختبار صعب أيضاً لزعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري ومدى قدرته على كبح جماح حلفائه المسيحيين الذين يصرون على احتكار الحق في ترشيح الرئيس القادم. فلا سبيل إلى الخروج من مأزق الاستحقاق الرئاسي إلا بتوافق على أن يأتي الرئيس الجديد من خارج الوسط السياسي الغارق في صراعاته العدائية. ويبدو كل من الاسمين المتداولين الآن ملائماً، وهما قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم البنك المركزي رياض سلامة. وقد فتح البطريرك الماروني نصر الله صفير الباب أمام أي منهما عندما أعلن استعداده لقبول تعديل دستوري لإلغاء الشرط الذي يقضي بتقاعد الموظف من الفئة الأولى لمدة عامين قبل الترشح لمنصب الرئيس إذا كان هذا ضرورياً لإنقاذ البلاد. والتعديل، على هذا النحو ضروري لأن كلاً من سليمان وسلامة مرشح إنقاذ، بالفعل. وقد فعل بطريرك الموارنة، الذين يأتي منهم الرئيس في لبنان، ما عليه ويبقى أن يحذو السياسيون في المعسكرين حذوه ليثبتوا أن لبنان لا يقل أهمية عندهم عن تحالفاتهم الإقليمية والدولية.