يحتل الصراع العربي- الإسرائيلي مكاناً خاصاً داخل دائرة الصراعات الدولية المزمنة. ويرد ذلك إلى طول المدة التاريخية التي مضت منذ بداية الصراع في العشرينات حتى الآن، بالإضافة إلى تعدد الأطراف الدولية المؤثرة على مسار الصراع. ومما لاشك فيه أن الولايات المتحدة الأميركية تعد أهم طرف دولي مؤثر على حل الصراع، بحكم أنها تتبنى مواقف إسرائيل سياسياً بالكامل، بالإضافة إلى مدها بالقروض والمنح غير القابلة للرد، والمساعدات العسكرية بلا حدود، وبمبالغ وصلت إلى مليارات الدولارات. غير أنه بالإضافة إلى دور الدول الخارجة عن الدائرة المباشرة للصراع، هناك دور بارز للرأي العام العالمي. وهذا الدور يمارس من وجهة النظر المعنوية ضغوطاً لاشك فيها على الدولة الإسرائيلية، بل على الدولة الأميركية نفسها، وخصوصاً بعد ظهور الوجه القبيح للعنصرية الإسرائيلية، وذلك في مجال قهر الشعب الفلسطيني من خلال إرهاب الدولة. وإرهاب الدولة الإسرائيلية ظهر واضحاً في محاولتها اليائسة قهر انتفاضة الشعب الفلسطيني، ولجوئها إلى سياسة الاغتيال المنظم للزعامات والقيادات الفلسطينية، بالإضافة إلى الدهم الوحشي للقرى والمدن، والاعتقال العشوائي لآلاف الفلسطينيين. ومما لاشك فيه أن استطلاعات الرأي العالمية التي تجريها بعض مراكز الأبحاث المستقلة، والتي تنشر نتائجها على العالم، سواء من خلال شبكة الإنترنت أو في الصحافة العالمية، تعدُّ من بين الأطراف غير المباشرة المؤثرة في حل الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك بإبراز اتجاهات الجماهير في العالم، وخصوصاً إزاء إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. ومن بين هذه المراكز التي نشأت مؤخراً في الولايات المتحدة مشروع "بيو" Pew لقياس الاتجاهات العالمية. وهذا المشروع تديره مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، وعضو الكونجرس السابق جون دانفورث. ويجري هذا المشروع استطلاعات رأي عالمية منذ عام 2002 حتى الآن. وآخر استطلاع نشرت نتائجه أجري في ربيع عام 2007 الجاري، وشمل 47 قطراً، وبلغ عدد من تم استطلاع آرائهم 45239 شخصاً. والاستطلاع يضم محاور متعددة، أبرزها الاتجاهات إزاء الولايات المتحدة الأميركية والسياسة الخارجية الأميركية، والتهديدات الكونية، والاتجاهات إزاء الصين وتزايد نفوذها، والاتجاهات إزاء إيران، والاتجاهات إزاء صراع الشرق الأوسط، والاتجاهات إزاء قادة العالم والمؤسسات الدولية، والاتجاهات إزاء روسيا. ومن هنا يتضح اتساع دائرة الأسئلة، مما يعطي فكرة واضحة عن اتجاهات الجماهير في بلاد متعددة إزاء كل هذه القضايا، بالإضافة إلى مشكلات العولمة والإرهاب والديمقراطية. ونقنع في هذا المقال بعرض أبرز الاتجاهات العالمية إزاء حل الصراع العربي- الإسرائيلي عموماً، وإنشاء دولة فلسطينية خصوصاً. وأول ملاحظة يبديها تقرير "مشروع الاتجاهات العالمية" أن الإدراكات حول الصراع العربي- الإسرائيلي تختلف اختلافات جوهرية بحسب المناطق والبلاد. وكما هو الحال في الماضي فإن الأميركيين أبدوا تأييداً قوياً لمواقف إسرائيل، مما يعزلهم في الواقع عن كل المجيبين في الأقطار الأخرى. وقد أكد 49% من المجيبين الأميركيين أنهم يتعاطفون مع إسرائيل، في حين لم يتعاطف مع الفلسطينيين سوى 11%. أما بالنسبة للجماهير في بلاد أوروبا الغربية، فإن نسبة كبيرة قررت أنها لا تتعاطف مع الإسرائيليين ولا مع الفلسطينيين، أو امتنعت عن إبداء رأيها. ومن بين الجماهير التي اتخذت موقفاً متعاطفاً من الفلسطينيين أعداد كبيرة في فرنسا وإنجلترا والسويد وأسبانيا، أكثر من تعاطفهم مع إسرائيل. في حين أن الألمان والتشيك والسلوفاك كانوا أكثر تعاطفاً مع إسرائيل. ونجد أن نصف الإيطاليين ممن أجابوا عن أسئلة الاستطلاع، قرروا أنهم لا يتعاطفون مع أي من أطراف الصراع. أما في الشرق الأوسط، وكذلك في الدول الآسيوية ذات الغالبية الإسلامية، فإن التعاطف مع الفلسطينيين نسبته كبيرة للغاية، وتبدو حالة مصر نموذجية -كما يقول التقرير- في هذا السياق لأن 93% من المجيبين يتعاطفون بشدة مع الفلسطينيين. وفي أفريقيا فإن عدد المتعاطفين مع إسرائيل كبير في كل من ساحل العاج، وكينيا، وأوغندا، وأثيوبيا وغانا. في حين يزداد عدد المتعاطفين مع الفلسطينيين في الدول الأفريقية ذات الغالبية الإسلامية مثل السنغال ومالي. أما في الدول الأفريقية التي تكاد تتعادل فيها نسبة المسيحيين مع المسلمين فهناك اختلافات بين كلتا الفئتين، ذلك أنه في أثيوبيا وتنزانيا ونيجيريا يميل المسيحيون إلى التعاطف مع إسرائيل، في حين أن المسلمين ينزعون إلى التعاطف مع الفلسطينيين. ويمكن القول إنه بالنسبة للجماهير الغربية فهناك اقتناع بأن هناك طريقاً مفتوحاً أمام إسرائيل للخروج من مأزق الصراع، وذلك بتلبية مطالب الفلسطينيين واحترام حقوقهم. غير أن الصورة تبدو مختلفة تماماً بالنسبة للجماهير الإسلامية في الشرق الأوسط. وذلك لأن سبعة من كل عشرة أشخاص مصريين أو أردنيين أو فلسطينيين أو كويتيين، يؤمنون بأن حقوق الشعب الفلسطيني لا يمكن تحقيقها ما دامت إسرائيل مازالت قائمة كدولة. غير أن الرأي العام اللبناني منقسم في هذا الصدد. فالمسيحيون يؤمنون بأن التعايش الفلسطيني- الإسرائيلي ممكن، في حين أن المجتمع الشيعي لا يوافق إطلاقاً على ذلك. أما الجماهير السُّنية فإن 57% من بينها يعتقدون أن هناك طريقة يمكن تبنيها، لكي تعيش إسرائيل جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية مستقلة. وإذا ولينا وجوهنا تجاه أوروبا الغربية يمكن القول إن الغالبية ترى إمكانية فعلية للتعايش الفلسطيني- الإسرائيلي، وكذلك 61% من الجمهور الإسرائيلي. وتجدر الإشارة أن الاتجاه لقبول فكرة التعايش قد هبطت معدلاته عما سبق عام 2003. ففي بريطانيا كانت النسبة 71%، غير أنها الآن 60%، وفي إيطاليا كانت النسبة 65% وهي الآن 48%، وفي أسبانيا كانت النسبة 53% وهي الآن 45%. وربما يرد انخفاض معدل اتجاه التعايش إلى القمع الإسرائيلي المتزايد ضد الشعب الفلسطيني من جانب، وإعلان "حماس" المستمر أنها لن تعترف بدولة إسرائيل من جانب آخر. وإذا ما انتقلنا إلى موضوع آخر وهو مسؤولية الأطراف المختلفة عن استمرار المشكلة الفلسطينية، فإن التقرير يؤشر على أنه ليس هناك إجماع عالمي حول من هو المسؤول -وهل هم الإسرائيليون أم الفلسطينيون- عن عدم إقامة دولة فلسطينية حتى الآن. ونجد أن المغاربة والأتراك والفلسطينيين يلومون إسرائيل في هذا المجال، في حين أن الإسرائيليين والأميركيين والتشيك غالباً ما يتجهون إلى لوم الفلسطينيين. وفي الوقت الذي نجد فيه جماهير عديدة في بلاد متعددة تعتبر كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مسؤولاً عن عدم الوصول إلى حل للصراع وإقامة الدولة الفلسطينية، فإن الجماهير الفرنسية على وجه الخصوص تميل إلى تحميل أحد طرفي الصراع المسؤولية. ولذلك نجد أن 49% من هذه الجماهير تلوم الإسرائيليين، في حين أن 33% تلوم الفلسطينيين. ومن الأهمية بمكان أن نشير أخيراً إلى أن الجماهير في بلاد إسلامية متعددة لا تلوم الفلسطينيين أو الإسرائيليين، بل تلوم أطرافاً أخرى أهمها الولايات المتحدة الأميركية لعدم الوصول إلى حل للصراع ينتهي بإقامة الدولة الفلسطينية التي يمكن أن تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية.