مع كل يوم جديد تتضاءلُ الآمال باستتباب الأمن في العراق. وتتضاءلُ كذلك فرصُ نجاح الولايات المتحدة في "تحرير" العراق من أزماته التي تفجّرت إثر الغزو الأميركي لهذا البلد؛ وإن كان لهذا الغزو -الاحتلال- مبرراته القوية، ولعل أهمها تخليص العراق من الحكم الديكتاتوري الذي أضرّ بالشعب العراقي وبموارده وثرواته الطبيعية وريعها الذي كان يذهب جُلُّهُ إلى حزب "البعث"! ومع انفلات الأمن من يد حكومة المالكي وقيادة الجيش الأميركي؛ تبرز إيرانُ كلاعب محوري في طاحونة الحرب. وهذا البروز -التدخل- في أمور العراق، يُبرر احتمالَ قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربات عسكرية إلى العمق الإيراني؛ على أساس ضعف الادعاء الأميركي، وعدم الاتفاق مع وكالة الطاقة الذرية على قدرة إيران على استخدام اليورانيوم المخصَّب للأغراض العسكرية. ولقد بيّنَ استطلاعٌ للرأي في أميركا (شمل 108 من الخبراء والساسة الأميركيين) أن 65% من العينة يرون أن بوش لن يُقدِم على توجيه ضربة لإيران خلال فترة رئاسته، كما أفصحَ الاستطلاع عن أن 89% من العينة يعارضون توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية. المؤشر الجديد على الأرض هو تسريبات نقلتها صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بأن الرئيس بوش "بدأ في إدارة ظهره للحكومة العراقية غير الفعالة"، على خلفية زيارة رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي للعراق، وحثِّ البرلمان العراقي على تغيّر رئيس الحكومة نوري المالكي. ويبدو أن الرئيس بوش أوغلَ كثيراً في ورطته العسكرية، ما حدا بالصحافة الأميركية إلى توصيف الوضع بأن واشنطن تواجه "لحظة الحقيقة في العراق"! وحسب جريدة "يو إس أيه توداي" فإن الرئيس بوش وقادة الجيش في العراق يؤكدون تزويد إيران لـ"المتمردين" داخل العراق بالأسلحة والتدريب لقتل القوات الأميركية؛ وأن الدعم الإيراني القوي للجماعات الشيعية المسلحة يزيد من الصراع داخل العراق. إيران بدورها تحاول تحريك حجارة اللعبة بصورة تكتيكية لتؤثر على الرأي العام الأميركي. المتحدث في بعثة إيران لدى الأمم المتحدة (محمد مير محمدي) يرد على الادعاءات الأميركية بالقول: "لا توجد حقيقة البتة في الادعاءات بأن إيران تزوِّد الجماعات العراقية بالسلاح، بل على العكس، إن الولايات المتحدة تقوم بـ(توليف) تلك الادعاءات على نحو موسَّع لتبرير فشل سياساتها في العراق". وكانت تقارير قد أشارت إلى قيام القوات الأميركية والعراقية بالهجوم على مكاتب لإيران في مدينة (أريبل) شمال العراق. وقد صادرت معدات ووثائق. كما رصدت مؤشرات التورط الإيراني في العراق مثل: الأسلحة التي صادرتها إسرائيل عام 2002 وكانت في طريقها لمنظمة التحرير الفلسطينية في غزة؛ ووُجدت في العراق. وأيضاً أسلحة بأرقام إيرانية متسلسلة منها صواريخ كاتيوشا وقنابل صاروخية، وكذلك التدريبات العسكرية والإمكانات التكنولوجية التي تقدِّمها إيران للجماعات المسلحة الشيعية؛ وهي التي تسبب 70% من الإصابات بين الجنود الأميركيين. وترى "كريستيان ساينس مونيتور" أن الولايات المتحدة ترسل إشارات حذرة نحو إيران؛ بعيداً عن لهجة التحذير والوعيد الشرسة التي أطلقها بوش قبل شهر وتوعد إيران فيها بحتميات قاسية. ونبرة الصوت الهادئة الآن تخفف من الادعاءات المباشرة عن تورط إيراني ضد القوات الأميركية في العراق. وقد ألمح بعض مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع "البنتاجون" إلى ضرورة حل المشكلات مع طهران عبر القنوات الدبلوماسية. كما قلل تقريرٌ للمخابرات الأميركية من دور إيران في العراق معتبراً أن المعضلات الطائفية في هذا البلد هي التي تسبب عدم الاستقرار!؟ لاحظوا التناقض في الرؤى الأميركية في التعامل مع الوضع في العراق؟! وسواء صدقت تلك الإشارات أو "الرسائل" الاختبارية الأميركية أم لا؛ فإن التلكؤ الأميركي وعدم قدرة الحكومة العراقية على ضبط الأمور في العراق، سيضاعفان من حجم المشكلة العراقية، ويشجّعان الأطرافَ الأخرى على رفع حالة الاستنفار للتدخل في ذاك البلد. تقارير ذكرت أن المدفعية الإيرانية قصفت بلدات كردية في أقصى الشمال الشرقي للحدود العراقية مع إيران؛ مستهدفة بذلك قواعدَ "حزب العمال الكردستاني" التركي. ولقد وقعت إصابات في صفوف الجيش الإيراني نتيجة تلك الاشتباكات. في ذات الوقت فإن القوات التركية قصفت قرية "بيتكار" التابعة لمحافظة "دهوك" على حدود إقليم كردستان مع تركيا. وبهذا تتفق إيران وتركيا على محاولة تصفية عناصر "حزب العمال الكردستاني". ويبدو أن الأكراد يتخوفون من قيام تحالف إيراني/ تركي ضد العراق في محاولة لكسب مواقع في "كركوك" الغنية بالنفط. ولقد طالبت الجبهة التركمانية -في بيان مكتوب- بعدم تجاهلها، واصفة التحالف الكردي/ الشيعي في العراق بأنه طائفي وعنصري؛ وأنه يسعى إلى تمزيق وحدة العراق. كما طالبت الجبهة بتشكيل برلمان جديد وحكومة جديدة وفق قواعد ديمقراطية شفافة ولدورة واحدة. وفي ظل هذا الواقع -الذي تطفو على السطح بعض ملامحه وتبقى أجزاء أخرى غير مرئية- يرى البعض أن العراق آيلٌ للسقوط في مستنقع التقسيم الطائفي، واستئثار دولة شيعية بالعراق، وأن دستور العراق هو الذي يُمهِّد لذلك. فمن أين يبدأ العراقيون حديث المستقبل؟ وكيف لهم أن يحلموا بعراق جديد -كما وعدت به الولايات المتحدة قبل غزوها/ "تحريرها" للعراق! صحيح أن الولايات المتحدة أزالت "البعبع" المُتسلِّط على رقاب العراقيين؛ لكنها فتحت القمقم ليخرج آلاف "البعابع"!؟ وإذا كان "البعبع" الأوحد كان يمارس أفعاله علانية وفي وضح النهار؛ فإن آلاف "البعابع" الحالية تضاهي الخفافيش في شرب دم العراقيين الآمنين تحت جنح الظلام. نحن ندرك أن الحالة العراقية هي حالة تشفٍّ وانتقام؛ مهما حاول العاطفيون من أبناء العراق الجريح نفي ذلك! فدول الجوار السُّنية لا تريد دولة شيعية تعاضدها إيران الشيعية التي لها طموحات في الانتشار العقائدي خارج حدودها!؟ كما أن الدولة الشيعية لن تنسى ما قام به حزب "البعث" (السُّني) ضد مواليها. كما أن تركيا تحلم بوضع آمن على حدودها الجنوبية والتخلص من نشاطات حزب العمال الكردستاني. والولايات المتحدة لا يهمها من يحكم العراق -طالما أنها تؤمِّن النفط للمستقبل- وبإمكانها أن تضع يدها بيد الشيطان في سبيل ذلك. من يدري فلو استطاعت إيران تبديدَ مخاوف الولايات المتحدة أو ادعاءاتها حول الملف النووي الإيراني فإن تحالفاً جديداً قد يظهر في المستقبل يقويِّ نفوذ إيران ودورها في الحكومة الشيعية بالعراق؛ وتسقط ُ بذلك كل الدعاوى الأميركية ضد عضو "محور الشر"- إيران. وتبدأ مرحلة جديدة في العلاقات الأميركية/ الشيعية؛ في ذات الوقت فإن حاجة دول مجلس التعاون (السُّنية) للحماية الأميركية سوف "تردعها" عن المطالبة بأي شكل من أشكال المطالبة بـ"الرحيل" أو "الطلاق" السياسي بينها وبين الولايات المتحدة. واستناداً لهذه المعطيات فإن على دول الخليج أن تتهيأ لمرحلة ما بعد التقارب الإيراني- العراقي- الأميركي؛ وتتوقع -ربما- الأسوأ من الناحية الأمنية!؟