شهدت الأعوام القلائل الأخيرة، انتشاراً واسعاً للمواقع الإلكترونية المتخصصة في بيع الأدوية والعقاقير الطبية، فيما أصبح يعرف بصيدليات الإنترنت (Internet Pharmacy). ويتشابه العديد من هذه الصيدليات الإلكترونية مع الصيدليات العادية، بل كثيراً ما تكون جزءاً من شركات ضخمة، تمتلك العديد من الصيدليات العادية، وتعتبر الإنترنت مجرد وسيلة أخرى لبيع منتجاتها وللتواصل مع المرضى. وحسب هذا المفهوم في البيع، يظل الفرق الوحيد بين الصيدليات العادية، ومثيلتها الإلكترونية، متمثلاً في الطريقة التي يتم بها طلب وإيصال الدواء، بينما تظل القوانين والإجراءات والممارسات التي تحكم العالَمين متطابقة ومتماثلة. وبناء على هذا، ينظر الكثير من المرضى إلى الصيدليات الإلكترونية على أنها بديل أفضل من الصيدليات العادية، للأسباب التالية، أولاً: أنها تقي المريض الإحراج الشخصي، إذا ما كان مرضه من الأمراض المُحرجة، كالأمراض الجنسية مثلاً. ثانياً: أنها توفر عناء الذهاب المتكرر للصيدلية، خصوصاً إذا ما كان المريض يقطن في منطقة نائية، أو كان مرضه يتطلب العلاج لفترات طويلة أو مدى الحياة. ثالثاً: في الكثير من الحالات يكون المريض مُقعداً في البيت، دون توفر فرد من العائلة أو صديق يعينه على الذهاب للصيدلية، وهو السيناريو الذي يتكرر كثيراً في الدول الغربية التي ضعفت فيها إلى حد كبير العلاقات العائلية والاجتماعية، وخصوصاً للمُسنين. رابعاً: أحياناً ما لا يتوفر الدواء أو العقار في بلد المريض، بسبب صغر حجم السوق المحلي، أو لعدم الحصول على الموافقة ببيعه من الجهات المحلية المختصة، وحينها تصبح صيدليات الإنترنت هي السبيل الوحيد للمريض للحصول على دوائه. خامساً: كثيراً ما تعرض هذه الصيدليات نفس الدواء بسعر مخفَّض مقارنة بالصيدليات العادية، إما بسبب انخفاض مصاريف التشغيل مثل قيمة الإيجار، أو بسبب الاختلافات المحلية والدولية في قيمة الضرائب. ولكن مثلها مثل التطورات التكنولوجية الأخرى التي تميز العصر الرقمي الذي نعيشه حالياً، حملت فكرة شراء وصرف الأدوية والعقاقير الطبية عبر الشبكة العنكبوتية الكثير من المحاذير، وفتحت الباب للعديد من المخاطر التي تصل أحياناً إلى درجة السرقة والغش. وأول تلك المحاذير يتعلق بالمواقع والصيدليات، التي لغرض جذب عدد أكبر من الزبائن وزيادة حجم المبيعات، تصرِف الأدوية دون وصفة طبية. هذه الممارسات، رغم أنها في رأي البعض توفر على المريض أتعاب الطبيب ومشقة الزيارة العيادية، إلا أنها تشكل خطراً جسيماً على المرضى من خلال إخراج الطبيب من المعادلة. فالكثير من الأدوية الطبية، وخصوصاً تلك التي تحتاج لوصفات طبية للحصول عليها، تحمل في طياتها العديد من المضاعفات والآثار الجانبية، مما يتطلب مراقبة ومتابعة المريض أثناء فترة العلاج من قبل طبيب متخصص. هذا بالإضافة إلى أن الكثير من الأدوية تتفاعل مع بعضها بعضاً، لتؤدي كثيراً إلى عواقب غير حميدة، مما يتطلب معرفة مسبقة بمثل هذه التفاعلات لتجنب تعاطيها في نفس الوقت. والمشكلة الأخرى التي ظهرت مؤخراً مع تعاطي الأدوية المشتراة من صيدليات الإنترنت، هي تزايد ظاهرة الإدمان على تلك العقاقير. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تشير تقديرات الجهات الفيدرالية إلى أن 46 مليون أميركي فوق سن الثانية عشرة، أو ما يعادل واحداً من كل خمسة أشخاص، قد أساءوا استخدام العقاقير المُسكِّنة للآلام وذات التأثير النفسي المصروفة بوصفة طبية، على الأقل مرة واحدة في حياتهم. وبالنظر إلى هذا العدد الهائل في ظل القوانين التي تتطلب وجود وصفة طبية، فلنا أن نتخيل العدد الذي سينجرف إلى تلك العقاقير في غياب شرط الوصفة الطبية. هذه الآثار السلبية لصيدليات الإنترنت، عاد ليُظهرها هذا الأسبوع تقرير صدر عن إحدى الجهات الاستشارية البريطانية المتخصصة في مكافحة التزوير في مجال الأدوية والعقاقير. وخلُص هذا التقرير إلى أن فقدان القوانين والتشريعات التي تحكم عمل هذه الصيدليات، من شأنه أن يضع حياة الكثيرين في خطر، وأن يعرضهم لعمليات غش ونصب واسعة النطاق. فمن خلال متابعة خبراء المركز الاستشاري لأكثر من ثلاثة آلاف موقع، لم يكتشفوا فقط أن العديد من هذه المواقع يبيع الأدوية دون وصفة طبية، بل إنه يُحتمل في كثير من الحالات أن تكون هذه الأدوية منتهية الصلاحية أو مغشوشة من الأساس. فبمقارنة أسعار ستة من الأدوية واسعة الاستخدام، كانت بعض المواقع تبيع تلك الأدوية بخُمس سعرها في الصيدليات العادية، أي بخصم يقدر بـ80%. وبناء على ديناميكيات سوق الدواء الثابتة والمعروفة، نادراً جداً ما تمنح الشركات المُصنِّعة للأدوية خصماً بأكثر من 25% للصيدليات الكبرى، فكيف تأتَّى لتلك المواقع أن تبيع بهذا السعر، إلا إذا كانت تبيع دواءً فاسداً، أو منتهيَ الصلاحية، أو مغشوشاً، أو ربما حتى مسروقاً. ومما يفاقم المشكلة، عجز الحكومات عن تنظيم هذا السوق، أو معاقبة من يستخدمه للسرقة والغش. فبسبب طبيعة المواقع الإلكترونية، ووجودها غالباً خارج حدود الدولة التي يتم فيها الشراء، تعجز السلطات المحلية عن اتخاذ الإجراءات القانونية ضد أصحاب تلك المواقع عند ارتكابهم لأفعال إجرامية، وهي أفعال ربما تتضمن حتى سرقة معلومات بطاقة البنك للمشتري، أو بيع بيانات الزبائن لجهات أخرى، لتستخدمها تلك الجهات بشكل قانوني أو غير قانوني. وعلى رغم أن السلطات القانونية والطبية، تحاول جاهدة سد هذه الثغرات، لمنح المرضى فوائد صيدليات الإنترنت، دون تحمل مخاطرها والوقوع في محاذيرها، إلا أنه على ما يبدو أن إيقاع العصر الرقمي سيسبق دائماً أية محاولات تهدف لتنظيم هذا المجال الحديث.