غيبت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية وشبه الوطنية المنتشرة على خريطة البلدان العربية، المسألة الرئيسية التي كانت محور النقاش لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وهي إصلاح نموذج تنظيم الحياة العمومية؛ المدنية والسياسية. وكان العرب ينظرون في غالبيتهم إلى هذا الإصلاح منذ تسعينات القرن الماضي، على أنه الشرط الأول لإعادة بناء مجتمعاتهم وتأهيلها للدخول في الحركة الاقتصادية والاستراتيجية العالمية، وتمكينها من مواجهة التحديات الكبرى التي تنتظرها، وفي مقدمتها تلك المرتبطة بالحفاظ على الاستقلال وتعزيز القرار الوطني، أمام اشتداد المنافسة الدولية، ونزوع الدول الكبرى -خاصة الولايات المتحدة- إلى السيطرة الشمولية. وكان مفهوم الإصلاح يعني مراجعة أساليب الحكم والإدارة، وإعادة بناء نظام السياسة الذي ساد فيها لعقود، بما يتضمنه من توجهات فكرية وأخلاقية ومن خيارات استراتيجية وبرامج سياسية... على أسس مختلفة بل مناقضة لما ساد في عقود سابقة. فكان السؤال المطروح: هل المطلوب في سبيل إنهاض المجتمعات العربية ومساعدتها على التقدم، الاستمرار على النموذج الاستثنائي التسلطي، بما يستتبعه من إلغاء للتعددية والحياة السياسية وتعليق للحريات العامة، وقبول بالحكم الفردي وقوانين الطوارئ... بذريعة توفير الظروف المناسبة لتسريع وتيرة التطور ونقل المجتمع إلى الحداثة... أم أن المطلوب هو الانتقال إلى نظام سياسي تعددي، هو المتبع حالياً في معظم بقاع العالم -باستثناء كورية وكوبا والصين- يقوم على مبدأ اختيار القيادات السياسية بالاقتراع العام وفي ظروف منافسة نزيهة وقانونية تعرض فيها مختلف النخب الاجتماعية مشاريعها وبرامجها السياسية. الواقع أن أغلب النخب العربية، إن لم تكن جميعها، كانت مقتنعة خلال فترة طويلة ماضية، كما هو الحال في مناطق أخرى كثيرة من العالم، بأن النموذج الأفضل لتحقيق التقدم هو نموذج الحكم المركزي الاستثنائي الذي يضمن تحكم النخب الطليعية بالمسيرة الوطنية للتسريع من وتائر النمو. هذا كان موقف القوى اليسارية والقومية عموماً، بعد أن أعلنت القوى الليبرالية في العالم أجمع، في مناخ الحرب الباردة، خيانتها لقيمها العميقة وتحالفها الوثيق، في عموم العالم الثالث، مع الديكتاتوريات العسكرية التي اعتقدت أن وجودها أصبح شرطاً لتحقيق الاستقرار السياسي الذي يمكنها من تعظيم استثماراتها أو من جذب الاستثمارات الخارجية! كان هذا الموقف هو السائد في أوساط النخب الثقافية والسياسية والعسكرية والنقابية والدينية والاقتصادية معاً. لكن ذلك الإجماع على النموذج التسلطي للحكم قد تحطم تدريجياً منذ انهيار الشيوعية وفلسفتها السياسية في العالم، وزوال الحرب الباردة، وبعد أن تبين المردود الضعيف لهذه النظم في مجال الإصلاح، مقارنة بالنظم التعددية. فقد قاد نظام الحكم الاستثنائي الرافض لفكرة انتخاب القيادات، إلى حالة من الركود والجمود والفساد غير محتملة في جميع البلدان التي طبق فيها. والسبب أن النخب التي تحكم من دون منافسة ولا مراقبة تميل إلى تكريس المنافع والامتيازات الخاصة على حساب المصالح العامة، أي مصالح الدولة والشعب، ومراكمتها واحتكارها والحفاظ عليها بقوة السلاح إذا احتاج الأمر، وذلك مهما كان أصل هذه النخب وعقيدتها السياسية وشعاراتها وخطاباتها. وهكذا بدأت تبرز تدريجياً، لكن بشكل متعاظم، منذ نهايات القرن الماضي، فكرة جديدة أخذت تسيطر على قطاعات متزايدة من النخبة الاجتماعية، تكرس الاعتقاد بأن مستقبل مجتمعاتها، ومستقبلها هي نفسها، رهن بتغيير قواعد العمل السياسي، والانتقال إلى نظام يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في تحمل الواجبات العمومية، ويطلق الحياة السياسية من جديد على أسس التعددية والتنافس على احتلال مناصب المسؤولية واختيار الأصلح والأقدر على تطوير البلاد وإدارتها. وهكذا نشأت ديناميكية الصراع السياسي من جديد في المجتمعات العربية بعد أن كانت قد خمدت تماماً ولفترة طويلة سابقة مع انطفاء النزاعات الأيديولوجية القديمة التي كانت تغذيه؛ بين بعثيين وناصريين، قوميين وقطريين، شيوعيين وليبراليين. كان من الممكن للنخب الحاكمة أن تبحث عن تسويات مؤقتة تسمح لها بكسب أكثر ما يمكن من الوقت من دون أن تحرم النخبة التعددية الجديدة من الأمل بإمكانية حصول تداول للسلطة، ولو في أفق بعيد. بل كان من مصلحتها، وهي تسعى إلى إعادة إدراج نفسها في المجال الاقتصادي العالمي بعد قطيعة طويلة، وتواجه مشاكل انتشار البطالة والفقر والفساد وتفاقم التوترات المذهبية والإثنية، أن تحاول تجديد الثقة بها عن طريق الانفتاح وتوسيع دائرة المشاركة. وهذا ما كان الجمهور يأمله ويراهن عليه في السنوات القليلة الماضية مع تصاعد فكرة الإصلاح. بيد أن عوامل داخلية وخارجية قادتها إلى السير في عكس الاتجاه المطلوب. وكانت النتيجة- كما نشاهد اليوم- انهياراً عميقاً في الموقف الوطني والإقليمي، وتدهوراً خطيراً في كل مؤشرات الحياة العمومية وتراجعاً مرعباً للثقة وتنامي إمكانيات واستعدادات الفئات الاجتماعية والأطراف المختلفة لممارسة العنف أو الانخراط فيه، وفي النتيجة النهائية استعصاءً كارثياً للوضع. فنحن ندفع اليوم، وسوف ندفع إلى زمن طويل، ثمن إجهاض هذا الإصلاح والتشبث بأساليب حكم وخيارات داخلية وخارجية غير منتجة وغير ناجعة إن لم تكن مثيرة للفتن ومغذية لكل أنواع الاحتجاج والخروج على السلطة والتمرد والانفجار. عوامل عديدة ساهمت في دفع الأوضاع العربية إلى هذا الخراب الفظيع. بعضها مرتبط بالسياسات الدولية القديمة والحديثة معاً، وفي زمن أقرب، بالسياسات الأميركية التي دفعت المنطقة، عبر التدخلات العسكرية وعمليات الهيكلة وتقطيع الأوصال وتجميع الأعضاء كيفما كان وتقويض الفكرة الديمقراطية نفسها، كما حصل في فلسطين مع رفض نتائج الانتخابات التشريعية... إلى حافة الكارثة، بقدر ما فرضت عليها أجندة خارجية، ففتت جميع القوى الداخلية وحرفتها عن مسارها الطبيعي. لكن بعضها عوامل داخلية مرتبطة بنجاح الأجنحة المتطرفة في الحكم، بالتحالف مع مجموعات المصالح المافيوية في الداخل والخارج معاً، في فرض رؤيتها للوضع واغتيال أي مشاريع إصلاحية كان من شأنها أن تخفف وقع الأزمة أو تساهم في وضع تصور لمواجهتها. وهذه الفئات والأجنحة هي نفسها التي راهنت- ولا تزال تراهن- على عقد الصفقات مع القوى الدولية لضمان التجديد للنظم بصرف النظر عن الإرادة الشعبية، بل في مواجهتها. وهذا ما يضعنا على أبواب حقبة ثورية، ليست بالضرورة بالمعنى الإيجابي للكلمة الذي اعتدنا عليه في أدبياتنا السياسية، ولكن بالمعنى السلبي الذي يفيد بأن السياسة فقدت فاعليتها في تنظيم الشؤون العامة أو تقديم حلول للأزمات المستعصية، ولم يبق أمام الجمهور المذعور والخائف على مصيره ومصالحه الحيوية إلا الانخراط في حروب داخلية، لا يمكن أن تكون، في غياب الرؤية العقلانية والأخلاقيات الإنسانية، سوى حروب تدميرية ومذابح بشرية.