أقل ما يمكن أن يقال في حق الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان إنها فشلت في دورها. بعد أكثر من ستين سنة فشلت في وضع أسس الوحدة الوطنية، وفي تحقيق الديموقراطية وفقاً لمقتضيات الدستور الذي صاغته وعدلته أكثر من مرة. بل سمحت هذه الطبقة، طوعاً أو كرهاً، لقوى خارجية بمصادرة دورها من خلال البرلمان في انتخاب رئيس الجمهورية. بعبارة أخرى، كانت ولا تزال الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان هي الثغرة التي من خلالها تتسلل التدخلات الخارجية، إقليمية ودولية، وهي تدخلات تصل أحياناً إلى حد التحكم في اللعبة السياسية في الداخل وفقاً لمصالح الخارج، وضداً على مصالح اللبنانيين أنفسهم. انتخاب رئيس الجمهورية- وهو قضية اللبنانيين الأولى اليوم- لم يكن أبداً حقاً حصرياً لأعضاء مجلس النواب حسب نص الدستور. بدلاً من ذلك أصبح الناخب الأول لرئيس الجمهورية هو إحدى، أو مجموعة من الدول. يأتي الرئيس في هذه الحالة وفقاً لما تقتضيه مصالح هذه الدول. والغريب أن أعضاء البرلمان قبلوا، أو وجدوا أنفسهم مرغمين على أن يدلوا بأصواتهم في الاستحقاق الرئاسي على هذا الأساس. بمثل هذا السلوك يكون النواب (ليس كل واحد منهم طبعاً) رهنوا أصواتهم لمصالح دول أخرى، وليس للمواطنين الذين انتخبوهم، ويفترض أنهم يمثلونهم في المجلس. الآن وبسبب تراكمات الماضي، وتداعيات اغتيال رفيق الحريري، تعقّد موضوع الاستحقاق الرئاسي في لبنان إلى درجة أن البعض يرى أنه لن ينتهي على الأرجح هذه المرة بانتخاب رئيس جديد، بل قد يكون مدخلاً لحرب أهلية. السؤال: كيف وصلت العملية السياسية اللبنانية إلى هذا الوضع الخطير والغريب معاً؟ من الممكن إعادة كل الأسباب في أصلها وفصلها إلى عاملين اثنين: تبني ما يسمى بـ"الديموقراطية التوافقية"، وإناطة مهمة انتخاب رئيس الجمهورية بمجلس النواب، مما جعل من المجلس هيئة انتخابية مرة كل ست سنوات، إلى جانب كونه الهيئة التشريعية في الدولة. الإشكالية أن هذا الدور لمجلس النواب تحوّل بسرعة إلى ثغرة للتدخلات الخارجية في العملية السياسية اللبنانية، وخاصة انتخاب رئيس الجمهورية. وهذه علامة فشل الطبقة السياسية الحاكمة. لكن هذه الثغرة لم تكن ممكنة لولا مفهوم "الديموقراطية التوافقية". هناك تكامل بين المسألتين: "الديموقراطية التوافقية" تفرض حصر انتخاب الرئيس في مجلس النواب، وهذا الدور للمجلس يعزز هذه "الديموقراطية التوافقية"، وكلاهما يفتح باب العملية السياسية اللبنانية واسعاً أمام التدخلات الخارجية. ما هي الديموقراطية التوافقية؟ قبل الإجابة لابد من التأكيد على أن هذا المصطلح لا وجود له إلا في لبنان. ليس هناك شيء اسمه "ديموقراطية توافقية" و"أخرى غير توافقية". إما أن يكون النظام السياسي ديمقراطياً، أو لا يكون ديموقراطياً. طبعاً هناك حالات وسطى تقع بين طرفي المعادلة، لكنها دائماً ضمن متواصلة التطور السياسي للدولة. قد تبدأ الإصلاحات السياسية في دولة ما بخطوات في اتجاه الديموقراطية، لكن مع الاعتراف بأن ما تحقق هو على طريق الديموقراطية، وليس الديموقراطية ذاتها. الإشكالية الموجودة في لبنان تتمثل في اعتبار ما يسمى هناك بـ"الديموقراطية التوافقية" على أنها الشكل الأمثل والنهائي للدولة اللبنانية، وبالتالي محاولة تسويقها على أنها شكل من أشكال الديموقراطية الحقيقية، بل وربما المتقدمة، وذلك انطلاقاً مما يسميه اللبنانيون "الرسالة التي يمثلها لبنان" للعالم. وهم يقصدون بذلك، كما يبدو، رسالة التعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب الدينية تحت سقف دولة وطنية واحدة. وهنا تبرز المفارقة. هناك تعايش في لبنان، لكنه تعايش يحافظ على التكوينات الطائفية، ولا يؤدي إلى انصهار الطوائف في كيان وطني قائم على مفهوم الدولة للجميع، والمواطنة باعتبارها الصيغة الوحيدة لعلاقة الفرد بالدولة. يتضح ذلك في التجربة السياسية اللبنانية التي دائماً ما تخذل رسالة لبنان المفترضة. الانقسامات والاصطفافات الطائفية هي السمة الغالبة في المجتمع اللبناني، وتحديداً في المجتمع السياسي هناك. الحواجز الطائفية هي المحدد الأهم للعلاقات بين الجماعات والكتل السياسية، وبين الفرد والدولة. وكثيراً ما تسببت هذه الاصطفافات الطائفية بنزاعات سياسية قاسية، وأحياناً بحروب أهلية. وبالتالي فإن الحديث عن رسالة للبنان لا يتجاوز كونه كذلك، مجرد حديث أمانٍ لا يعكس الواقع على الأرض. نعود إلى مفهوم "الديموقراطية التوافقية". يعني هذا المفهوم أن الحكم في لبنان غير ممكن من دون التوافق بين جميع الطوائف التي يتكون منها المجتمع اللبناني، خاصة الطوائف الأكبر حجماً، وبالتالي الأكثر وزناً سياسياً من بينها. التوافق المطلوب هو توافق بين "الطوائف"، وليس بين أي مكونات اجتماعية أو سياسية أخرى. ماذا عن الأحزاب؟ والأفراد؟ والمؤسسات؟ كل هذه يفترض فيها أن تمثل حسب هذه المقولة الطائفة التي ينتمي إليها أفرادها. وهذا هو الواقع. فـ"حزب الكتائب"، و"القوات اللبنانية"، و"تيار المردة"، و"التيار الوطني الحر"، كلها تنظيمات تتقاسم فيما بينها تمثيل المسيحيين الموارنة. و"حزب الله"، وحركة "أمل" يمثلان المسلمين الشيعة. و"الحزب التقدمي الاشتراكي" يمثل المسلمين الدروز، و"تيار المستقبل" يمثل المسلمين السنة، و"الحزب القومي السوري" يمثل المسيحيين الأورثودكس... وهكذا. في هذه الحالة تصبح الطائفة هي الوحدة السياسية الأولى والأهم في المجتمع اللبناني، وليس الفرد، وتتقدم حقوق الطائفة على حقوق الفرد. من هذه الزاوية يتناقض مفهوم "الديموقراطية التوافقية" مع أهم مبادئ الديموقراطية، مثل التعددية السياسية والفكرية (وليس الطائفية)، وحرية الاختيار خارج حدود ومستلزمات الانتماء الطائفي، والمساواة، والمسؤولية، وحكم القانون. "الديموقراطية التوافقية" في لبنان لا تتسع لأي من ذلك. المساواة في التركيبة السياسية اللبنانية التي تستند إلى هذا المفهوم مستحيلة بغض النظر عن التسميات. وذلك لسبب بسيط وواضح، وهو أن الطوائف تختلف فيما بينها من حيث الحجم الديموغرافي وما يترتب عليه من وزن سياسي، ومن حيث التاريخ، والسابقة في تأسيس الدولة، وقبل هذا وذاك في قدرة كل منها على نسج خيوط التحالفات مع القوى الإقليمية. التحالفات مع الخارج لها وظيفة في التركيبة السياسية اللبنانية. توظف هذه التحالفات من قبل الطوائف للاستقواء بها في الداخل. في هذه "الديموقراطية التوافقية"، وهي ديموقراطية غير دستورية، وبناء على تلك الاختلافات بين الطوائف، استقرت التقاليد السياسية اللبنانية على أن تتوزع أكبر الطوائف الثلاث الرئاسات الثلاث فيما بينها. رئيس الدولة لابد أن يأتي من الطائفة المارونية. ورئيس الوزراء لابد أن يكون سنياً، ورئيس مجلس النواب لابد أن يكون شيعياً. وفقاً لهذا التقليد السياسي لا تملك الطوائف الأخرى أي حق في هذه الرئاسات. وهنا تبرز المفارقة الثانية، وهي أن الدستور اللبناني، خاصة في صيغته المعدلة بناءً على اتفاق الطائف، لا ينص على هذه "الديموقراطية التوافقية"، كما أنه لا ينص تحديداً على هذا التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث. بعبارة أخرى، يتناقض الواقع السياسي اللبناني في الكثير من جوانبه بشكل فاضح مع نصوص الدستور اللبناني المصادق عليه من مجلس النواب. وضْع المادة 49 من الدستور يبرز مدى تناقض الواقع السياسي مع هذا الدستور. تنص هذه المادة على أمرين: الأول "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي"، والثاني أن مدة رئاسة الرئيس ست سنوات، "ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته...". الشاهد هنا أنه لم يحصل أن تم الالتزام بنص هذه المادة تقريباً في كل استحقاقات الرئاسة اللبنانية، مما دفع البعض إلى المطالبة بإلغائها من الدستور كلية. فلا مجلس النواب هو الناخب الأول والأخير لرئيس الجمهورية، كما تنص هذه المادة، ولا ولاية الرئيس بقيت ست سنوات لا يجوز إعادة انتخابه إلا بعد مرورها. كثيراً ما تم تمديد ولاية بعض الرؤساء من دون أي اعتبار لمنطوق هذه المادة، وهو ما حصل للرئيس الحالي بضغوط سورية. الآن يقال إنه لا يمكن انتخاب الرئيس القادم بالأغلبية المطلقة. لابد أن يتم الانتخاب بأغلبية الثلثين. أي الالتزام ببعض ما نصت عليه المادة 49، وترك البعض الآخر. التبرير المعلن دائماً باسم "الديموقراطية التوافقية". أما غير المعلن فهو التحالفات الخارجية. فشل الطبقة السياسية واضح هنا وفاضح. وليس هناك من مخرج إلا بنقل صلاحية انتخاب الرئيس من مجلس النواب، أو الطبقة السياسية، إلى الشعب. هذا كفيل بإنهاء ثغرة التدخلات الخارجية، وبجعل النظام السياسي أقرب إلى الديموقراطية الحقة، وأبعد عن "الديموقراطية التوافقية" المتوهمة، بل والمدمرة.