سألني الأستاذ الجامعي "عصمت" من الإمارات عن مصطلح "الدين"... ما هو؟ فكان جوابي أن الدين حسب القرآن يأتي بمعانٍ أربعة: فقد جاء بمعنى الحساب والجزاء، كما في قوله "مالك يوم الدين"، وبمعنى القانون وطريقة الحياة، كما في قول فرعون عن موسى "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"، ثم بمعنى الانقياد كما في الآية "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين"، وأخيراً بمعنى السلطة والقهر، كما في الآية "فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين". وهكذا فالدين هو ذلك المركب الرباعي من: السلطة العليا، والإذعان لها، ونظام الفكر أو طريقة الحياة بموجب شريعة مقننة، والمكافأة عليها. وكما قال المودودي في كتابه "المصطلحات الأربعة"، فإن كلمة الدين "كلمة جامعة مانعة"، ولعله لا يوجد لها رديف باللغة الإنجليزية، وأقرب كلمة لها هي (State)، لكنها ليست في نفس الامتداد. لذلك يعلق المودودي بقوله: "وبملاحظة جميع ما ورد في القرآن، لا يبق أدنى شك أن كلمة الدين لم ترد بمعنى النحلة، بل أريد بها الدولة ونظام المدنية، فكان ما يخشاه فرعون أنه إن نجح موسى عليه الصلاة والسلام، فإن الدولة ستدول، ونظام الحياة القائم على حاكمية الفراعنة سيقتلع من أصله، ثم إما أن يقوم نظام آخر على أسس مختلفة جداً، وإما ألا يقوم بعده أي نظام، بل يعم المملكة الفوضى والاختلال". وأنا أختلف مع المودودي فيما توصل إليه. صحيح أن فرعون كان يرى أن موسى في طريقه للثورة؛ أي "يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره"، كما أوضح سيد قطب، ولكن في تقديري أن موسى لم يأت، لا لقلب النظام الفرعوني كما قال قطب، ولا لإنشاء نظام لاحق، بدليل قول موسى إنه يريد فقط "فأرسل معي بني إسرائيل"... فمهمته كانت واضحة هي خلاص الشعب الإسرائيلي الذي تحول في ظل العبودية، إلى آلة عضلية هائلة لخدمة المجتمع الفرعوني. وخشية فرعون كانت من أن تضيع كل هذه الأيدي العاملة التي تساهم بكدحها وعرق جبينها، في رفاهية فرعون وعصابته الحاكمة، كما هو حال كثير من جمهوريات الخوف والبطالة... وحين نعلم من بعض المصادر أن من خرج مع موسى كانوا في حدود 600 ألف نسمة، نعلم عظم خسارة النظام الفرعوني، من هذه الآلة العملاقة التي تحمل على كاهلها الطبقة الفرعونية المخملية الفاسدة. ولا غرابة أن نقرأ في البيان الشيوعي في مطلع القرن العشرين تقسيماً ذكياً للمجتمع إلى خمس طبقات على شكل هرم، يحتل قاعدته العمال والفلاحون والكادحون، وبجانبها كلمة "نحن نطعمكم". وفي أعلى الهرم الطبقة الحاكمة المترفة وبجانبها كلمة "نحن نحكمكم". وبينهما طبقة الجنود وبجانبها كلمة "نحن نقتلكم". وفوقها طبقة الكهنة وبجانبها كلمة "نحن نخدعكم"، وفي المرتبة الثالثة نجد طبقة التجار والمخادعين من الحاشية الفاسدة، وبجانبها كلمة "نحن نركبكم ونعين الحاكم الفاسد على ركوبكم". لكن النظام الشيوعي لحقه قانون "دورة التاريخ"، ففسد كما فسد غيره، ومن قام وأسس دين الإكراه لن يأخذ سوى العبيد، وبذلك انهار الاتحاد السوفييتي جزاءً وفاقاً. ومهمة موسى لم تكن إصلاحية قط، بل كانت تحريرية؛ فقال لفرعون على نحو واضح: لقد نفضت يدي من المجتمع الفرعوني، وليس لي هدف في إصلاحه، ولكن أعطني بني إسرائيل فلي معهم مهمة. ومهمته كانت تحديداً نقلهم إلى الصحراء، واستخراج جيل جديد من نسلهم، لا يعرف إلا الشمس والحرية. "قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين...". تلك هي قصة الدين والديانة والديان...