قبل 62 عاماً وفي مثل هذا الشهر، وبالتحديد في اليوم السادس منه، أطلقت الولايات المتحدة الأميركية قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، أتى ذلك حين رمى سلاح الجو الأميركي هذه القنبلة على المدينة المذكورة قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. أما نتائج هذا الحدث الهائل، فأتت على النحو التالي: تدمير ثلثي المدينة المنكوبة، من مجموع أربعمائة وعشرين ألفاً من السكان، قتل منهم حالَ إلقاء القنبلة ثمانون ألفاً، أما الذين بقوا، فقد مات منهم مائتا ألف إنسان، على امتداد فترة انتهت عام 1959. وقد كتبت الصحافة، في حينه، أن هذا الحدث يجسد "سياسة القوة في إرعاب الشعوب". وأوساط أخرى ذكرت، في حينه، أن تفجير القنبلة الذرية أتى كونه "اختباراً" عملياً لجدوى السلاح الجديد. هكذا تجد البشرية المعاصرة نفسها أمام ذكرى هائلة في دلالاتها الخطيرة المخدِّرة، وبعد انقضاء اثنين وستين عاماً على الحدث المذكور، يلاحظ المرء أن مخاطر الحروب لم تنته، بقدْر ما راحت تأخذ وتائر أكثر تسارعاً وتصاعداً. يتم هذا خصوصاً بعد نشأة النظام العالمي الجديد، وظهور مفاهيم جديدة في خارطة الحروب، أهمها وأخطرها ما يسمى بـ"الحروب الاستباقية"، وكذلك ما دخل التاريخ العسكري مع غزو العراق بصيغة "الحرب على البلدان التي تملك وسائل الدمار الشامل". وجدير بالإشارة إلى أن هذه الحروب وغيرها مثّلت- وما زالت تمثل- تطبيقاً لنتائج حاسمة لبحوث علمية متقدمة ضمن مجموعات عمل ومراكز بحوث. وواضحٌ أن كمياتٍ ضخمةً من الأموال تُنفق على هذه البحوث، وعلى من يقوم بها، وينقل نتائجها إلى حيّز الفعل التدميري، أكثر مما يتم في حيز الفعل الإبداعي الإنساني، وعلى صعيد العالم برمته. من هنا، كانت حوافز التدخل في عملية الإنتاج والتطبيق العلمي لصالح السلام والتقدم والرفاه، وضمن هذا السياق، جاءت جائزة "نوبل"، التي كُرّست لمن يساهم في بناء السلام العادل في العالم، وعلى هذا فقد اقترن العلم بالسلام. أما العلم نفسه فهو قيمة كبرى، لا يستطيع العالِم أن يقوده بشرف "علمي"، إن لم يضع نصب عينيه هدف الحياة للحفاظ عليها في سبيل الجميع. وفي هذه الحال، من الممتع أن نستذكر العالمة البولونية الفرنسية مدام كوري التي ضربت أعظم المثل العليا على تفانيها في إنتاجها العلمي الدقيق، ليس في سبيل الكسب المادي ولا الشهرة العالمية، بل من أجل قيم العلم النبيلة البناءة. فلقد اكتشفت مدام كوري عنصر الراديوم عام 1902، وذلك بالاشتراك مع زوجها العالمي بيار كوري، فقد استخرجاً أملاح الراديوم من الزفت، ليُحدثا بذلك دوياً علمياً ضخماً. كان إشعاع الراديوم مؤذياً مضراً، وربما كذلك خطيراً، وقد نال العالمان الكثير من ذلك، لكن العظمة في الأمر أنهما لم يوقفا جهودهما المركّزة على هذا الصعيد. وأثار اكتشافهما الجديد اهتماماً خاصاً لجهة أن ثمن الغرام في ذلك الحين كان يصل إلى مبلغ مائة وخمسين ألفاً من الدولارات، ولما كان الزوجان الحبيبان العظيمان يتأذيّان من إشعاع الراديوم، فقد تبيّن لهما -عبر التكرار- أن الحرق الذي يحدثه هذا الإشعاع يستمر على الجلد فترة أسبوعين، ليحدث بعده شفاء عفوي، مِمّا حرّضهما على الاستمرار في البحث فيه، بغية توسيع دائرة فضائله العلاجية. وهذا ما تبلور بوصفه غاية مثلى وضعاها أمامهما في البحث العلمي المعْنِي. وستزداد اهتمامات العلماء ورجال الصناعة بالراديوم، حيث راح يتضح أنه يمكن الاستعانة به للتمييز بين الماس الحقيقي والماس الصناعي، إضافة إلى إمكانية استخدامه -بوتيرة متصاعدة- بوصفه مولّداً للحرارة، ويرى البعض أن الراديوم من المحتمل يوماً مَّا أن يُستعمل بديلاً للفحم الحجري. تلك كانت مسيرة نبيلة عظيمة لعالِميْن كرّسا علمهما في خدمة الإنتاج العلمي، وبهدف رفع مستوى الناس عبْر وضعه في خدمتهم. في هذه النقطة العميقة الدالة يكمن الاختلاف النوعي الحاسم بين سلوك هذين العالِمْين وآلاف آخرين من العلماء، وبين المصالح الجشعة المدمّرة لمَن يقفون على قمم الحكم في بلدان كثيرة من الغرب في شِقّه الاستعماري الهيْمني. وهذه المقارنة دقيقة الحساسية وستبرز بعمق، إذا نظرنا إلى العالميْن "كوري" من جهة، وإلى أبالسة المال والسلطة من جهة أخرى. حينذاك سنضع أيديَنا على ما فعله مجرمو الحرب العالمية الثانية، الذين قذفوا هيروشيما وناجازاكي بعدها، بقنبلة ذرية من طرف، وعلى أبطال الإنسانية من العلماء من طرف آخر، سواء كانوا علماء طبيعة أو علماء في الدراسات الاجتماعية والإنسانية. ويبدو أن الخلاص من مخاوف العلم المُميت ليس متصلاً بهذه العلوم نفسها، بل بمن يوجهّها ويضع استراتيجياتها، في صيغها العسكرية الحربية. والوقوف في وجه ذلك يستحق أن يكون هدفاً للبشر.