نسبت مصادر صحفية للسيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" تصريحاً يوم الخميس الماضي مفاده أن المصالحة بين حركتي "حماس" و"فتح" وصلت إلى طريق مسدود، متهماً "فتح" بأنها أغلقت كل الأبواب، ورفضت كل الوساطات الفلسطينية والعربية. والمشكلة أن هذا التصريح يبدو معبراً عن أمر واقع، وأن الاهتمام العربي بالمسألة برمتها بدأ يفتر كالعادة على الرغم من مؤشرات للحركة هنا أو هناك من باب إبراء الذمة. غير أن المشكلة الأكبر أن أي تسوية متوازنة -بعيداً عن أن تكون عادلة- للقضية الفلسطينية لا يمكن أن تتم في ظل الظروف الراهنة، كما أن أي تفكير في تفعيل المقاومة باتجاه تحقيق الأهداف الاستراتيجية للنضال الفلسطيني يبدو ضرباً من الخيال في ظل الظروف نفسها. فحديث التسوية لم يكن وارداً أصلاً قبل الصدام الدموي بين "حماس" و"فتح"، اللهم إلا في أذهان الموهومين به، أو الذين يتصورون أنهم يكسبون شرعية من الادعاء بأن الأمور تتحرك باتجاه التسوية. ذلك أن إسرائيل لم تكن مستعدة لأية تسوية يمكن أن يقبلها الفلسطينيون كحد أدنى، ولكي تكون كذلك يجب أن يحدث تغيير ملموس في موازين القوى بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية يفضي إلى ثمن موجع يتعين على إسرائيل أن تدفعه إن أرادت الاستمرار في تجاهل الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني. وهو خيار أصبح أصعب بكثير من ذي قبل بالنسبة للفلسطينيين في ظل إسقاط رئاسة السلطة الفلسطينية المقاومة كخيار، وانشغال "حماس" بتثبيت سلطتها في غزة أكثر من تصعيد مقاومتها ضد إسرائيل، والانقسام المروع الذي حدث في حركة المقاومة الفلسطينية. وهكذا كانت الخلاصة الأساسية للاقتتال بين "حماس" و"فتح" في غزة وانفراد الأولى بالسيطرة على القطاع فيما انفردت الثانية بالضفة، أن ضربة موجعة قد وُجهت لخياري التسوية والمقاومة معاً. الأخطر من هذا أن الأمور تفاقمت بعدها بدرجة أكبر بانشغال كل طرف بتصفية نفوذ الطرف الآخر في الأرض التي يتصور أنه "يسيطر" عليها، فالقوة التنفيذية مشغولة الآن بمنع المسيرات وفض الاعتصامات ومهاجمة التجمعات المعارضة، وهو ما يمكن أن يكون له مردود أمني جيد، لكنه سياسياً يعني أن "حماس" عاجزة عن تقديم إطار وطني جامع يصلح بديلاً لمنطق الاستئثار الذي تُتهم "فتح" باتباعه منذ فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية في العام الماضي. والأمر نفسه يحدث في الضفة التي يُطارد فيها أنصار "حماس" بالطريقة نفسها. وتشير التقارير إلى نصائح إسرائيلية "مخلصة" للسلطة الفلسطينية هناك بضرورة إبداء اهتمام أكبر بالشرائح الاجتماعية الضعيفة، ليس لأن هذا هو واجب السلطة أصلاً، وإنما لتجفيف منابع التأييد الشعبي لـ"حماس"، وحتى لا تفاجأ السلطة بعد سنوات بسيناريو غزة وقد تكرر في الضفة. يتصل بهذا أن جزءاً من أبعاد الموقف الخطير الراهن في الضفة والقطاع يتعلق بالاصطفاف العربي والإقليمي والعالمي الذي أعقب الصدام بين "فتح" و"حماس" في غزة، ولا أدري كيف يمكن لمناضل فلسطيني حقيقي -أياً كانت التهم الموجهة لـ"حماس"- أن يقبل الدعم الصريح عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً لرئاسة السلطة الفلسطينية من إسرائيل والولايات المتحدة، والمشكلة أن هذا الدعم لا يتضمن أية نوايا جادة للتوصل إلى تسوية حقيقية، ولسنا بحاجة إلى تذكر أن كافة مقررات اللقاءات التي عقدت بعد أحداث غزة، والتي شاركت فيها إسرائيل ورئاسة السلطة الفلسطينية وحدهما أو مع غيرهما من الأطراف، وأن كافة التصريحات الإسرائيلية والأميركية في هذا الخصوص، لم تتضمن التزاماً واحداً -مهما كان محدوداً- من قبل إسرائيل بأي شيء يتعلق بقضايا التسوية الحقيقية. كيف نكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها القضية الفلسطينية في الظروف الراهنة إذن؟ الواقع أن أسوأ المناهج هو المتبع حالياً، وهو محاولة إدارة حوار مباشر بين الفصيلين اللذين سالت الدماء بينهما، فضلاً عن استمرار محاولة كل منهما ترسيخ سيطرته على حساب الآخر، ولا يمكن لحوار كهذا أن يبدأ -ناهيك عن أن ينجح- دون شروط أولها مراجعة تجربة العلاقة بين الفصيلين منذ بداية فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية وحتى وقوع الصدام الأخير بينها وبين "فتح". وثانيها إجراء عمليات التصحيح الداخلي المطلوبة في كل حركة لاستبعاد الأفكار والعناصر التي تغلِّب المشروع "الحزبي" على "الوطني"، ناهيك عن العناصر التي خانت قضية النضال الفلسطيني أصلاً أو تنكرت له. وثالثها ألا يدور الحوار حول تقسيم مقاعد وزارية أو مناصب حساسة، فهذا فات أوانه ولا يمكن أن يجدي، وإنما حول القضايا الحقيقية للنضال الفلسطيني، وأخص منها بالذكر اثنتين بالغتيْ الأهمية: الأولى تتعلق بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية في ظل مستجدات النضال الوطني الفلسطيني، وهي عملية كفيلة -إن تمت في ظل أجواء فلسطينية وعربية موضوعية- بأن تحل كثيراً من إشكالات الوضع الراهن، أو على الأقل توفر إطاراً لهذا الحل لمن يريد، والقضية الثانية تتعلق بدراسة جادة وأمينة لتأثير اتفاقية "أوسلو" 1993 وفكرة إقامة سلطة وطنية فلسطينية في ظل الاحتلال على النضال الفلسطيني، ومن ثم اتخاذ موقف حاسم منها. لقد تكفلت هذه الفكرة بتحييد تيار رئيسي في "فتح" إزاء مقاومة الاحتلال، ثم تكفلت بحرف "حماس" عن شعاراتها الملتزمة بنهج المقاومة لانشغالها بالدفاع عن موقعها السياسي بعد فوزها بالانتخابات التشريعية الأخيرة. هكذا لا يبدو أدنى شك في فساد فكرة السلطة في ظل الاحتلال من منظور النضال الفلسطيني، فضلاً عن أنه لا توجد سلطة أصلاً في ظل معابر لا تفتح إلا بإذن الاحتلال، وقوات تقتحم الضفة والقطاع معاً، ولا تفرِّق بين المقاومين من "فتح" أو "حماس" أو غيرهما، فتقتل من تقتل وتأسر من تأسر. ولسنا هنا بصدد مناقشة بدائل السلطة الفلسطينية، فهذه قصة أخرى، ويكفي الآن القول إن هذه البدائل موجودة، ويمكن تطبيقها وتطويرها. غير أن الأفكار السابقة تحتاج إلى قوة تدفعها، ولا يبدو بطبيعة الحال أن العناصر المسيطرة الآن على "حماس" أو "فتح" قادرة على ذلك، ولذا فإن الأمل -على الرغم من صعوبته- معقود على العناصر الأكثر موضوعية في داخل الحركتين، والتي أعلم علم اليقين بوجودها، وبأن لها تحفظاتها على مسلك قيادة الطرف الذي تنتمي إليه. كذلك فإن قوى المجتمع المدني الفلسطيني ذات التقاليد النضالية الراسخة ينبغي أن تتحرك في اتجاه الدفع نحو مناقشة القضايا الحقيقية للنضال الفلسطيني، وإن كان الاعتراف واجباً بأنها تواجه صعوبات بالغة في ظل نذر الحكم الشمولي في القطاع والضفة معاً، وهي نذر نأمل -ولا نضمن- أن تتلاشى قريباً. كذلك يمكن لفلسطينيي 1948 بعامة وقادة الحركة الإسلامية منهم بخاصة أن يلعبوا دوراً مهماً في هذا الصدد. وسيكون من المفيد وجود ظهير عربي لهذه العملية، وإن كان تبلوره يواجه بعقبات كثيرة لعل أهمها أن معظم الدول العربية إما غير مهتم بالموضوع أصلاً، وإما منحاز بدرجة أو بأخرى لأحد الطرفين. كذلك من الواضح أن الدور العربي في حسم القضايا العربية يعاني من كوابح حقيقية، كما تشي بذلك الأزمات المتعددة في العراق ولبنان والسودان والصومال وغيرها. أترانا كفلسطينيين وعرب ما زلنا قادرين على أن نمسك زمام أمورنا بأيدينا؟ أم أنه يتعين علينا أن نقبع في انتظار ما تفعله بنا القوى الإقليمية والعالمية، مع يقيننا المسبق بأن آثار هذا الفعل كارثية، كما هو واضح في بقاع عديدة من الوطن العربي من ضمنها فلسطين بالتأكيد؟ وهل ما زال مجدياً أن توجه نداءات لضمائر "المناضلين" الفلسطينيين هنا وهناك بأن يراعوا حرمة قضيتهم حتى لا يفيقوا ذات يوم وقد وجدوا أنفسهم جميعاً في قاع بئر عميقة يحتاج الخروج منها إلى ما يشبه المعجزات؟