عرضنا في المقال السابق لموقف الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من بعض الصحابة الذين كانوا يروُون الحديث، ورأينا كيف أن عمر بن الخطاب قد حبس ثلاثة منهم لكونهم لم يكفُّوا عن الترويج للحديث رغم نهيهم عن ذلك؛ وقلنا إن الذي فُسِّـَر به موقف أبي بكر وعمر من كتابة الحديث أو الاستشهاد به هو الحرص على ألا يختلط بالقرآن الذي كان وحده "الكتاب". غير أنه ما أن استشرَت الفتنة في أواخر عهد عثمان وطوال خلافة عليٍّ حتى صار الحديث يوظف بكثرة من جانب الفرقاء المتنازعين. وفي إطار الفعل ورد الفعل أخذت بعض الفرق تعتمد أنواعاً من التأويل للقرآن، كلٌّ يؤوِّل حسب مصلحته، فسادَ نوع من "الإرهاب الفكري" أشبه بـ"التفتيش"، حتى كان الرجل الذي لا ينخرط في الفتنة ولا يناصر طرفاً دون آخر يُمتحن بأنواع من الأسئلة كان أكثرها خطراً من نوع: "ما تقول في عليٍّ" أو "ما تقول في معاوية"؟ والمطلوب من المسؤول الإجابة بتكفير عليٍّ وأصحابه، أو بتكفير معاوية وأصحابه! وقد احتفظ لنا مؤرخو الفِرق بمعطيات عن ذلك الإرهاب الفكري الذي ساد الساحة الفكرية الإسلامية بعد حرب صفين. من ذلك ما ذكره عبدالقاهر البغدادي الأشعري في كتابه "الفَرْق بين الفِرَق" حيث نقرأ ما يلي -وما أشبه الأمس باليوم- قال: "كان الناس زمن الفتنة مختلفين في أصحاب الذنوب من أهل الإسلام: فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب كبير أو صغير مشركٌ بالله (وأكبر الذنوب: القتل وقد مُورس على نطاق واسع جداً زمن الفتنة)، وكان هذا قول الأزارقة من الخوارج. وزعم هؤلاء أن أطفال المشركين مشركون! ولذلك استحلُّوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم. وكانت الصفَرية من الخوارج (أصحاب زياد بن الأصفر) يقولون في مرتكبي الذنوب إنهم كفرة مشركون، كما قالته الأزارقة، غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال. وزعمت النجدات (أصحاب نجدة بن عامر الحنفي) من الخوارج أن صاحب الذنوب التي أجمعت الأمة على تحريمها كافر مشرك، وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حُكِم على اجتهاد أهل الفقه فيه. وعذروا مرتكب ما لا يعلم تحريمه، بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه. وكانت الإباضية من الخوارج (أصحاب عبدالله بن إباض) يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عز وجل وما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك. وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن "صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق، والمنافق شر من الكافر المُظهر لكفره". ويعطينا الشهرستاني في كتابه "المِلل والنِّحل" صورة حية عن ذلك "الوضع الفكري" الذي ساد ما بعد حرب صفين، فيقول: "دخل واحدٌ على الحسن البصري فقال‏:‏ يا إمام الدين‏!‏ لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفرٌ يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يُرجِئون (إلى يوم القيامة) أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل (تطبيق الشريعة) على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً (رأي العقيدة الإسلامية). فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء (أحد رواد مجلسه)،‏ أنا لا أقول‏:‏ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين‏:‏ لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به. ويشرح الشهرستاني رأي واصل في هذا الموضوع فيقول: "ووَجْهُ تقريره أنه قال‏:‏ إن الإيمان عبارة عن خِصال خَيْر إذا اجتمعت سُمي المرء مؤمناً وهو اسم مدح، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً، وليس هو بكافر مطلقاً أيضاً، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إذ ليس في الآخرة إلا فريقان‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير، لكنه يخفف عنه العذاب وتكون درَكته فوق دركة الكفار‏".‏ ويواصل الشهرستاني شرح رأي واصل بن عطاء فيقول: قال واصل: "في الفريقين من أصحاب (حرب) الجمل وأصحاب صفين‏:‏ إن أحدهما مخطئ لا بعينه (بمعنى أنه يصعب تحديد من المخطئ ومن البريء منهما)، وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه‏".‏ قال‏:‏ إن أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه... وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين، فلم يُجَوِّزْ قبول شهادة علي وطلحة والزبير (أصحاب حرب الجمل) على باقة بقل، وجوَّزَ أن يكون عثمان وعليٌّ على الخطأ‏".‏ وقد ذهب إلى نفس الرأي صديقه عمرو بن عبيد. وواضح أن من بين ما يدخل في "الشهادة" رواية الحديث. ومن هنا كان واصل بن عطاء وغيره من المعتزلة لا يعتمدون الحديث أساساً ويقولون بأسبقية "العقل" على "النقل". هذان الرجلان، واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، هما اللذان أسسا ما يسميه المستشرقون بـ"العقلانية في الإسلام"، وهم يقصدون في مجال العقيدة. وقد سبق أن بينَّا رأينا في الموضوع في كتب لنا مضى عليها أكثر من ربع قرن، فليرجع إليها كل من زاده الفكري "الأفكار المتلقاة" لا غير. لكنْ هناك موضوع كنا بسطنا فيه القول وهو متصل بموضوعنا هنا، وهو موقف علماء المسلمين من الحديث النبوي. لقد انفرد المعتزلة بوصفهم "متكلمين" (أي عقَديين إيديولوجيين) بالموقف المذكور أعلاه، أما علماء الإسلام المختصون في الشريعة (في الفقه) فقد انقسموا إلى تيارين كبيرين: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث. أما أصحاب الحديث فهم مالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وأصحاب داود الأصفهاني... الخ‏.‏ وإنما سُموا‏‏ "أصحاب الحديث" لأنهم يفضلون اعتماد الأحاديث وبناء الأحكام عليها بدل اعتماد القياس. ومعلوم أن أصحاب الحديث هؤلاء ليسوا كلهم على رأي واحد: فمالك مثلاً لا يقبل من الحديث إلا ما وافق "عمل أهل المدينة"، وكانت لغيره تحفظات أخرى باستثناء ابن حنبل الذي اعتمد الحديث على نطاق واسع جداً ربما لمواجهة موقف خصومه المعتزلة (انظر التفاصيل في كتابنا "المثقفون في الحضارة الإسلامية"). أما أصحاب الرأي ‏ فهم أبو حنيفة النعمان ‏ومحمد بن الحسن والقاضي أبو يوسف وأبو مطيع البلخي... الخ‏.‏ وإنما سمُّوا‏:‏ أصحاب الرأي "لأن أكثر عنايتهم‏‏ بتحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها"، ‏ وقد قال أبو حنيفة‏:‏ "علمُنا (فقهنا) هذا رأي، وهو أحسن ما قدِرنا عليه، فمن قدِر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا‏".‏ هذا ومما يروى عن أبي حنيفة في شأن اعتماد ظاهر الحديث دون إعمال الرأي أن رجلاً سأله عن شيء فأجابه فيه، فقال الرجل معترضاً: إنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فقال أبو حنيفة: دعنا من هذا، مشيراً بذلك إلى أن الحق عنده ما هداه إليه عقله وليس ما نسب إلى النبي (وفيه الصحيح وغير الصحيح... الخ). وهناك مسألة مشهورة في كتب الفقهاء تبيِّن معنى اعتماد الرأي عند أبي حنيفة: ذكر أحدُهم أمامه حديثاً نبوياً هذا نصه: "البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا"، أي أن البائع والمشتري يمكنهما التراجع عن الصفقة بطلب من أحدهما إذا كانا ما يزالان في المكان الذي تم فيه عقد البيع بينهما. فقال أبو حنيفة محتجاً: "أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن؟ أرأيت إن كانا في سفر؟"، بمعنى أن هناك ظروفاً قد تلزم البائع والمشتري على عدم الافتراق. هذه الاستطرادات ربما كانت مفيدة، قبل الانتقال إلى بيان رأينا في حديث "من بدَّل دينه فاقتلوه". إن الذين يفكرون تحت وطأة الأفكار المتلقاة يستسْهلون القتل، وربما يخلطون بين هذه "الأفكار" وبين دوافع أخرى "في نفس يعقوب"، تتحرك داخل الشعور واللاشعور، مما يجعل من خلخلة الاعتقاد الأعمى في الأفكار المتلقاة واجباً شرعياً. قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ"! (البقرة 170)، صدق الله العظيم.