اعتبار القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009, كما قرر مجلس وزراء الثقافة العرب, قرار يستحق الترحيب والثناء, ويضع تحدياً كبيراً أمام الفلسطينيين. قد تمر المناسبة وتمر شهور عامها المعني من دون ترك أثر كبير, ولكن قد تمر وتشكل انعطافة إيجابية وتحرِّك ركوداً صار لابد من تحريكه. بل إنه من الضروري بالفعل استثمار هذه المناسبة وخلق حالة ثقافية فلسطينية متجددة الحيوية، ثمة حاجة ماسة إليها في ضوء التردي العام الذي تشهده فلسطين. طبعاً هناك خصوصية مميزة لأن تمر قاطرة العاصمة الثقافية العربية في القدس بسبب الوضع الاحتلالي البشع. ومن المؤكد أن في احتضان القدس لهذه القاطرة تحدياً من نوع آخر للاحتلال وللوضع الذي يريده للقدس. وأية وجهة نظر ترفض أو تتحفظ على قبول فكرة القدس عاصمة للثقافة العربية لمدة عام، بسبب وجود الاحتلال، يظل منطقها ضعيفاً. تحدي الاحتلال ومقاومته يكون بالإعلان عن استمرار الحياة على غير ما يرى ويرسم ويريد المحتلون. وفي الثقافة تتجلى صور مقاومة الاحتلال والظلم بأسمى صورها. لكن من المهم, في الوقت ذاته, بلورة رؤية معمقة حول ما يمكن أن يكون وعي القدس, أو وعي فلسطين, الثقافي الذي يُراد له أن يُقرأ خلال عام كامل. كما أنه من المهم التأمل في تجربة المدن العربية الأخرى التي مرت بها قاطرة عاصمة الثقافة العربية فكانتها, لتفادي اختلالاتها وأخطائها, والبناء على ما نجح منها. فليس من الحكمة ولا من النجاح لملمة أنشطة ثقافية هنا وهناك كيفما اتفق في عام كهذا من دون وعي بخصوصية تجربة القدس, وخصوصية ما يصدر عنها. ولعل الدرس الأول الذي قدمته تجارب بعض العواصم العربية في هذا الشأن هو أن الاعتباطية والعفوية هي أسُّ تخلف الأداء وتردِّيه. ومشاركة في النقاش التحضيري الذي من المفروض حدوثه الآن ثمة عدة مسائل من المهم الإشارة إليها. المسألة الأولى، والتي هي في غاية الجوهرية، متعلقة بضرورة تضمين المشروع الثقافة الفلسطينية في خارج فلسطين, ومثقفيها, وما أنتجت, في سياق الجهد المنْويِّ تقديمه. وهذا يبدأ من شكل ونوعية وعضوية اللجنة التحضيرية التي ستشرف على إعداد وصياغة الرؤية المطلوبة وما سيقدم. ولعله من الخطأ الكبير, والذي ما زال بالإمكان تلافيه, الإعلان عن تشكيل لجنة, كما حدث مؤخراً, مقصورة عضويتها على فلسطينيي الداخل. فهذا التشكيل يرسل الرسالة الخطأ منذ البداية, إذ بأي معنى يتم استثناء نصف الشعب الفلسطيني في الخارج ومثقفيه وإنتاجاتهم، وما يمكن أن يساهموا به من أفكار في إنجاح العام الثقافي في القدس؟ المسألة الثانية هي ضرورة أن تكون الرؤية التي تنتظم عام القدس الثقافي إنسانية, تعددية, وموجهة إلى العالم بأسره, ومسامية على الاحتلال في الآن ذاته. عليها أن تنقل غنى القدس وغناءها, تعدديتها, وتعايش أهلها, واحتضانها عبر تاريخها الطويل للناس, والأديان, والطوائف, والقادمين إليها من كل الجهات. كلما علت تلك الرؤية فوق الاحتلال وقزمت لحظته في تاريخ المدينة الطويل, وكلما قدمت ثقافة ثرية, كوسموبوليتانية ذات فضاء منداح, كلما نقلت صورة أنصع عن ثقافة فلسطينية غنية بذاتها وبثقتها في نفسها. المسألة الثالثة متعلقة بموقع القدس في الصراع مع الكولونيالية الصهيونية, وإعادة موضعتها ثقافياً وإنسانياً على قاطرة التحرر. وهنا من الضروري الإشارة إلى أن الخطاب الصهيوني التقليدي, ثم خطاب المسيحية الصهيونية الأميركي, قد طورا فكرة لئيمة في الأدبيات المعاصرة تقول إنه ليست هناك أهمية حقيقية للقدس, لا ثقافياً, ولا سياسياً, ولا تاريخياً, بالنسبة للعرب والمسلمين. فالقدس, بحسب ذلك الخطاب المُؤدْلج والمُصهْين, لم تكن يوماً ذات مغزى عربي أو إسلامي, إذ أن الأهمية الدينية كانت على الدوام لصيقة بمدينتي مكة والمدينة. أما قداسة القدس إسلامياً فهي أمر افتعله العرب والمسلمون في مراحل لاحقة ولغايات سياسية بعد قيام إسرائيل, وللمطالبة بها كعاصمة للدولة الفلسطينية. سياسياً وتاريخياً, وكما يذهب ذلك الزعم, لم يكن للقدس دور مركزي في الصيرورات الثقافية والاجتماعية في بلاد الشام عند مقارنتها بمدن الساحل السوري, من اللاذقية إلى غزة, مروراً ببيروت وحيفا ويافا وعكا, حيث كانت تلك المدن هي حواضر التمدن والفاعلية السياسية. وهنا من الضروري, في عام القدس الثقافي, تقديم مفردات خطاب عربي وفلسطيني إنسانوي ينقض تلك الأطروحة التي لا نصيب لها من التاريخ الحقيقي, ولا ينجرُّ إلى قفص الخطابات الدينية المتوترة، فيقع فيما ينتقد عليه الآخرين. فالقدس وإن كانت في قلب التاريخ العربي والفلسطيني, وأحد محاضن, وبوصلات, الحركة السياسية والثقافية في فلسطين وبلاد الشام عموماً, فإنها كانت قبلة للتعددية الثقافية والاجتماعية. ودينياً لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد لإثبات قدسية القدس ومكانتها الروحية العالية في الوجدان الإسلامي العام, من المغرب إلى باكستان, والأمر ذاته بل وأكبر منه في الوجدان المسيحي الفلسطيني والعربي والإنساني. بيد أن كثيراً من تعبيرات الخطاب العربي والفلسطيني حول مركزية القدس ظلت حبيسة الأدبيات العربية وما ينشر فيها. وثمة حاجة لعولمة خطاب مركزية القدس الثقافية فلسطينياً وعربياً باللغات الحية الأخرى. ولئن كانت ثمة رؤية يجب أن يصوغها الفلسطينيون خلال العام الثقافي القادم في القدس فيجب أن تكون عولمة الخطاب ذلك في قلبها, بما يعنيه هذا من فعاليات ثقافية عديدة وحقيقية بلغات أجنبية. والمسألة الرابعة التي يمكن أن يُشار إليها هنا متعلقة بثقافة وتاريخ القدس القريب، أي قبل الانتداب البريطاني وقبل قيام دولة إسرائيل, لأن ذلك يصب في قلب الصراع الثقافي والسياسي على المدينة. ومرة أخرى فالرواية الإسرائيلية تحاول أن ترسم صورة مفارِقة للواقع التاريخي للقدس في القرنين الثامن والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ومفاد تلك الصورة هو غياب أي فاعلية سياسية وثقافية للمدينة, وهامشيتها, إضافة إلى تشويه العهد العثماني فيها. وذلك يخدم تلك الرواية حيث تظهر قدس الانتداب ثم قدس الاحتلال الإسرائيلي وكأنها اللحظة التاريخية التي ازدهرت فيها المدينة كلياً مقارنة بماضٍ ميت. لهذا فمن الأساسي هنا, وفي سياق الفسحة الزمنية المتاحة للقدس ثقافياً, أن يُعاد الاعتبار لتاريخ المدينة القريب, وتقديم السردية الفلسطينية الضالعة في تاريخ غنيٍّ انقطع غناه مع الوجود الكولونيالي الصهيوني وما اقترفه من بعثرة لنسيج المدينة وتناغم اجتماعها البشري. أما المسألة الخامسة, وليست الأخيرة, فمتعلقة أيضاً بمسألة الإشراف على عام القدس الثقافي ومسؤولية الأطراف المختلفة عنه. فمن ناحية رسمية هناك وزارة الثقافة الفلسطينية, واللجنة التحضيرية المعينة (والمنقوص تمثيلها لفلسطينيي الخارج) ومنوط بهما الإعداد والترتيب لما سيكون عليه شكل التثاقف المقدسي عام 2009. لكن من ناحية ثانية يجب أن يتجاوز شكل الإعداد والتحضير الأطر الرسمية, وأن يُصار إلى إبداع صيغ تستقطب المساهمات المتعددة من داخل وخارج فلسطين غير مشروطة بالمرور الإجباري في مسارات اللجان الرسمية. هناك واقع لا يمكن إنكاره يقول إن كثيراً من الفلسطينيين في الداخل والخارج سيتأففون عن التعاون مع أي أطر رسمية فلسطينية في هذا الشأن أو غيره, بسبب حالة التلوث والاستقطاب السياسي التي تعيشها الساحة الفلسطينية. ومن غير الحكمة ولا المعقولية تقليد الأنظمة والسياسات العربية في محاولة حشر أي مساهمة ثقافية أو حراك ثقافي في أطر رسمية. لهذا ربما من المفروض أن يكون البند الأول على جدول الاجتماع الأول لأي لجنة تحضيرية للإعداد لعام 2009 هو كيفية استقطاب المساهمات الفلسطينية والعربية من دون حشرها في أي إطار رسمي. كلما نجحت وزارة الثقافة واللجنة التحضيرية في التواضع وقبول دور المنسق العام, وليس المسيطر العام, كلما نجحت في استقطاب أفكار ومساهمات خلاقة بما يزيد من احتمالات أن تكون القدس عاصمة فعلاً للثقافة العربية الإنسانية... والعكس صحيح.