بناءً على ما تقدم في المقالات السابقة، فإن ما سنسرده في هذا البحث من "أحداث اجتماعية" إنما هو للبحث عن "المعنى" خلف هذه الأحداث، لأن "الأحداث الاجتماعية متلازمة تلازماً عميقاً، ولهذا السبب فإن درسها الحقيقي لا يمكن أن يكون منعزلاً عقلياً، بل يفرض الالتزام المتواصل بالنظر إلى مختلف الأوجه الاجتماعية في آن واحد"، مدخل إلى السوسيولوجيا صـ41. انطلقت الشرارة الأولى لانتعاش القيم البدوية بجوانبها السلبية والإيجابية بعد حرب الخليج الثانية وغزو العراق للكويت فقد كان الحدث ضخماً بكل المقاييس، وكانت هزته الاجتماعية في جانبها السلبي تتركز في إضعاف الولاء للدولة الحديثة وإضعاف قناعة الناس بقدرة هذه الدولة على حمايتهم من العدوان وإشعارهم بالأمان التام، وفي هذا السياق فقد هربت أسرٌ كويتية كثيرة، والتجأت إلى أقربائها وامتداداتها القبليّة في السعودية والخليج، وقد انتعش بذلك الشعور القبلي في صدور الناس من جديد، وثارت نعرات القتال والحروب والغزو التي تعبر عنها القصائد الشعرية والعصبيات القبلية على ضفتي المعركة. إن الأحداث التاريخية الكبرى التي تُلقَى في بحيرة التاريخ تُحدِث تموجاتٍ متعددةً، وتأثيراتٍ جليةً، وهكذا كان فبعد تلك اللحظة التاريخية "حرب الخليج الثانية" بدأت تخرج في المجتمع الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً مظاهر كانت محدودة من قبل وفي طريق الانحسار، ولكنها عادت لتنتعش وتنتشر من جديد، فبدأ الشعر الشعبي يسجل حضوراً لافتاً وغير مسبوقٍ على المستوى الشعبي، وبدأت الأسر الحضرية تتنافس في تزيين منازلها ومجالس الضيوف بأشجار الأنساب وتعقد الاجتماعات الدورية لأفراد العائلة أو القبيلة، كما يضع بعضها صندوقاً عائلياً لمساعدة المحتاجين من أفرادها، وخرجت للعلن مسابقات مزايين الإبل وارتفعت أسعار الإبل وانتشر اقتناؤها والولع بها من جديد. إن هذه المظاهر والأحداث الاجتماعية قد تبدو للبعض غير مترابطة، ولكن تعميق النظر فيها يظهر "المعنى" الذي يربطها ويجعلها مجتمعة تمثّل -في نظر كاتب هذه السطور- تعبيراً عن انتعاش القيم البدوية في المجتمع، والأسطر القادمة تحاول أن تسلط الضوء على علاقة هذه الأحداث الاجتماعية بالقيم البدوية. إن موضوع "الأنساب" والاهتمام المتزايد بها يعبّر عن رجوعٍ إلى نموذج القيم البدوية، وقد تقدم معنا في المقالات السابقة كلام الدكتور علي جواد عندما تحدّث عمّن "تحضّروا واستقروا وأقاموا، وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى الجد الأعلى وإلى أحياء وبطون"، وكما يرى ابن خلدون فإن "الأنساب والعصبية أجنح إلى البدو" مقدمة ابن خلدون 1/357، وخصوصاً حين تكون في أزمنة الإحساس العارم بالخطر والتهديد وهو ما يزيده ابن خلدون إيضاحاً بقوله: إن البشر "لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذ كانوا عصبية وأهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم" المقدمّة صـ128. وقد استرعى لصوق الأنساب بالبداوة انتباه بعض المستشرقين، فماكس فرايهير فون أوبنهايم يؤكّد أنه "لا حدود لاعتزاز البدوي بنسبه الذي يحرص عليه ويعنى به، ففي نظر البدوي أنه وحده أصيل ويتجذر فيه بعمق الإيمان بقوة القرابة الدموية التي يجب أن يلتزم بها" البدو-مصدر سابق-1/81، وقد انتبه الدكتور عبدالله الغذّامي بحسه النقدي العالي لاهتمام شباب أسر المدن بالنسب من خلال رصده لـ"العودة المحمومة بين الناشئة من أجل استخراج شجيرات السلالة وتأكيد الانتساب القبلي لدى الأسر المدنية" النقد الثقافي صـ135. أما الإبل ومسابقات مزايينها التي شهدت بعد حرب الخليج حضوراً ملحوظاً في المجتمع الخليجي والسعودي بشكل خاص، فإن ارتباطها بالبداوة أشهر من أن يدلّل عليه، فالإبل كانت عنوان البداوة الأول على طول التاريخ، كما أن "الإبل -هي- التي أعانت العرب على التوحش في القفر والإعراق في البدو" كما يؤكد ابن خلدون 1/404، والإعراق في البدو لا يعني شيئاً أقل من التشبع بمجمل القيم البدوية. أما الشعر الشعبي، فقد كان له الحضور الأبرز في الأحداث الاجتماعية المعبرة عن المعنى الذي ذكرناه، فبعد أزمة الخليج انتشرت كثير من الظواهر المعبرة عن ارتفاع الاهتمام بالشعر الشعبي إلى مستوىً يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ المنظور في المجتمع السعودي والخليجي منذ نشوء الدولة الحديثة، فانتشرت محاورات الشعراء في الأعراس والمناسبات بشكل لافت، ولكثافة التزايد في الاهتمام بها وتضارب الطلبات على شعراء المحاورة فقد خرجت للسطح مكاتب للتنسيق مع الشعراء مع تحديد لأسعار إحيائهم لليلة الواحدة، وغالباً ما تكون الأسعار عالية ومع ذلك يدفع الكثيرون دون تردد! كما انتشرت أيضاً في تلك الفترة مجلات الشعر الشعبي وتوالت إصداراتها المطبوعة وسجّل بعضها أرقاماً قياسية في نسب التوزيع، ورافقتها موجة من دواوين الشعر الشعبي المسجلة في أشرطة كاسيت، والتي تلقى بدورها متابعةً ورواجاً هائليْن، وبالتأكيد فهذه المجلات والأشرطة والدواوين تحمل الكثير من قيم البداوة، لأن الشعر يعتبر منذ القديم الحاملَ الأساس لدى العرب للقيم، وقد لقيت قيم البداوة في الشعر الشعبي مركباً وثيراً لانتشارها، ولئن كان "الشعر العربي لا يخلو من القيم والمعاني الحضرية، ولكنه يحتوي بالإضافة إليها على كثير من قيم البداوة ومعانيها" كما يؤكد علي الوردي في كتابه أسطورة الأدب الرفيع صـ104، وبما أن "شعراء البادية أرقى من شعراء القرى والمدن، فإن القبيلة تنغرس بقيمها في التفكير العربي" الغذّامي في كتاب النقد الثقافي صـ133، والتفكير السعودي والخليجي –إذا صحّ التعبير- وهما مجال بحثنا هنا يعدّان جزءاً أصيلاً من التفكير العربي، و"مهما يكن الحال، فقد يصح القول بأننا لا نجد في أي شعر من أشعار الأعاجم مثل هذا التمسك الشديد بتقاليد البداوة، الذي نجده في الشعر العربي، إنه في الشعر العربي ظاهرة تلفت النظر، وليس من السهل على الباحث إنكارها أو التغاضي عنها "كما يؤكد الوردي، وبما أن الشعر هو الحامل للقيم البدوية فهذه القيم في جانبها السلبي يختصرها قول الغذّامي: "القيم الشعرية هي قيم في البغي والاستكبار والفخر بالأصل القبلي" النقد الثقافي صـ102، وهو ما يذكرنا بما علّقنا به سابقاً على ما ذكره هادي العلوي حول تغلغل قيم البداوة في المسيحية، هذا مع استحضارنا أنه "كان للمجتمع الجاهلي خصائص اجتماعية ثلاث هي العصبية والغزو والشعر" أسطورة الأدب الرفيع صـ92. لقد حاولنا في هذا المقال رصد الأحداث والمظاهر الاجتماعيّة التي تدلّ على انتعاش وانتشار القيم البدويّة بجوانبها الإيجابية والسلبيّة، ونحن بهذا الرصد لا نسعى –كما أكّدنا سابقاً- لإدانة هذه الأحداث والمظاهر بل نسعى لتأكيد انتعاشها وانتشارها والخلوص إلى أن الجانب السلبي فيها ساهم مع غيره من العوامل السياسية والتعليمية والاقتصادية وغيرها لخلق ظاهرة العنف الحديثة. ولئن كان هذا الكلام يؤكد أن الشعر الشعبي وغيره يمثّل انتشاراً لقيم البداوة، فإن السؤال هنا هو: هل وصلت هذه القيم للخطاب الإسلامي المنتشر في السعودية والخليج أم لا؟ وإن وصلت إليه فهل هناك ما يؤكد أنها وصلت من خلاله لـ"تنظيم القاعدة" أم لا؟ حتى تصح حينها الدعوى التي يطرحها البحث بالزعم بوجود ارتباط بين قيم البداوة في جانبها السلبي وظاهرة العنف الحديثة في السعودية والخليج والعراق والمغرب العربي ومصر، وستكون الإجابة على هذه التساؤلات في المقال القادم. يتبع.