تخطئ القوى الراديكالية والمعادية للغرب إن ظنت أن المناورات العسكرية المشتركة الضخمة التي أجرتها القوات الروسية والصينية على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي الأخيرة في العاصمة القرغيزية "بيشكيك"، وما صدر عن القمة من بيانات وتصريحات منددة بمشاريع واشنطن حول نشر درعها الصاروخية على أراضي دول أوروبا الشرقية، وما تبع ذلك من قرار موسكو بعودة تحليق المقاتلات الروسية الاستراتيجية على مدار الساعة، إنما هي مقدمة لحرب باردة جديدة، تتحالف فيها هذه المرة الغريمتان السابقتان موسكو وبكين ضد الولايات المتحدة والغرب، على نحو ما صدر عن معلقين ومحللين عرب كُثْرٍ في الأيام الأخيرة. فموسكو ربما تبحث فعلاً عن استعادة مجد غابر، عن طريق استخدام عضويتها ونفوذها في منظمة شنغهاي لجر أعضاء هذه المنظومة، وفي مقدمتهم الصين، إلى تشكيل "حلف وارسو جديد" بهدف إحداث نوع من التوازن المفقود مع حلف "الناتو" وخططه التوسعية في أوروبا القوقاز وآسيا الوسطى. بل إن هذا ما عبرت عنه مجلة "كوميرسانت" الرسمية الروسية في مقال نشر مؤخراً حينما قالت: "إن قمة بيشكيك وما رافقها من مناورات عسكرية ضخمة ليست إلا جزءاً من جهود موسكو الجديدة لاحتواء نفوذ الولايات المتحدة على جميع الجبهات". لكن الطرف الآخر، ونعني به الصين، لئن كان يسعى منذ سنوات إلى تعزيز علاقاته مع روسيا في صورة شراكة استراتيجية شاملة وطويلة الأمد كبديل لما ساد هذه العلاقات أيام الحرب الباردة من نفور وتوتر وعداء، فإن آخر ما يفكر به هو الدخول في تحالف يقود إلى المواجهة مع الغرب، ولاسيما في هذا الوقت الذي تستعد فيه بكين لتحقيق حلمها باستضافة أولمبياد 2008. وبعبارة أخرى، فإن الصينيين بما عُرف عنهم من هدوء وتأنٍّ وبراجماتية وذكاء في إدارة علاقاتهم وسياساتهم الخارجية منذ تخلي نظامهم عن السياسات الثورية والراديكالية ووضعه كتاب "ماو" الأحمر على الرف، ليسوا في وارد التضحية بمصالحهم واستثماراتهم الكثيرة والمتشعبة مع الغرب، وتخريب نهوضهم الاقتصادي المشهود من أجل أعين الروس أو غير الروس. وفي هذا السياق من المفيد التذكير بما كتبه رئيس تحرير مجلة الشؤون العسكرية الصينية "تشين هو" مؤخراً من أن "المناورات العسكرية لدول منظمة شنغهاي لا تستهدف بلداً ولا تعني ولادة تحالف جديد ولا ترمي إلى خلق توازنات استراتيجية مع الولايات المتحدة، وإنما هي محاولة لخلق شكل من أشكال التعاون والتنسيق لأغراض الأمن الإقليمي". ومن المفيد أيضاً التذكير بأنه لو كان الصينيون فعلاً يريدون مواجهة الغرب واستفزازه من خلال منظومة شنغهاي، لما كانوا الأعلى صوتاً في الاعتراض على رغبة إيران، التي حضر رئيسها محمود أحمدي نجاد قمة بيشكيك كمراقب، في المشاركة في المناورات العسكرية لدول المنظومة، مستخدمين حجة عدم تمتعها بالعضوية الكاملة. ومن هنا يمكن القول إن بكين إنما تسعى من وراء مجاراتها لمواقف موسكو داخل أطر منظومة شنغهاي أو خارجها إلى تحقيق وتمتين مصالحها الخاصة فحسب، بمعنى الاستفادة القصوى من الحليف الروسي في مجالات حيوية مثل النفط والكهرباء والسلاح والتجارة. فالصين حريصة مثلاً على أن تبقى روسيا مصدراً رئيسياً لوارداتها من السلاح والمعدات الدفاعية الثقيلة في ضوء إنفاقها المتصاعد عاماً بعد عام على قدراتها العسكرية، بدليل وصول قيمة ما استوردته من الأسلحة والمعدات الحربية الروسية في العام الماضي وحده إلى نحو 1.5 مليار دولار. والصين التي تتحرك في كل اتجاه من أجل الاستحواذ على مكامن النفط والغاز لمواجهة الطلب الداخلي المتصاعد على الطاقة والناجم عن توسعها ونموها الاقتصادي الهائل، تنظر إلى ثروة روسيا الهائلة من النفط كأحد محددات علاقاتها الرئيسية مع موسكو. ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن البلدين أطلقا في عام 2005 مشروعاً مشتركاً لاكتشاف النفط في سخالين وتطوير الحقول الموجودة فيها، وآخر لإقامة مصفاة نفط ضخمة في شمال الصين. وفي عام 2006 وقع بنك التنمية الصيني الحكومي وشركة "روزنيفت" الروسية العامة على اتفاقية بقيمة 6 مليارات دولار لتزويد الصين بخمسين مليون طن من النفط الخام، وأعلن الجانبان عن تأسيس شركة لاستغلال وإنتاج 10 ملايين طن من نفط سيبيريا بحلول عام 2009. وهناك مشاريع أخرى مشتركة ما بين "روزنيفت" وشركة "سينوبك" النفطية الصينية تصل قيمتها الإجمالية إلى نحو 3.5 مليار دولار. ومن جهة أخرى تنظر الصين إلى روسيا كمصدر مهم لإمدادات الطاقة الكهربائية، ولا سيما إلى أقاليمها الشمالية المتاخمة للحدود الروسية الأقل نمواً والأكثر حاجة للانتعاش من أجل ضمان الأمن والاستقرار. وهي تحاول منذ بعض الوقت إقناع الروس بتخفيض أسعار ما يمدونها من طاقة كهربائية، علماً بأن شبكة الكهرباء الروسية زودت الصين في العام الماضي بنحو 800 مليون كيلووات/ساعة، ويمكن أن يصل حجم الإمدادات مع نهاية العام الجاري إلى 1.4 مليار كيلووات/ساعة. وفي نوفمبر 2006 اتفقت سلطات الكهرباء في البلدين مبدئياً على رفع الإمدادات الروسية من الكهرباء إلى الصين إلى 4 مليارات كيلووات/ساعة خلال الأعوام من 2008 إلى 2010، وإلى 18 مليار كيلووات/ساعة من عام 2010 إلى 2015. وأخيراً فإن الصينيين حريصون على تمتين وتعزيز مواقعهم في الأسواق الروسية الواسعة ذات القابلية لامتصاص أحجام هائلة من مصنوعاتهم الاستهلاكية الرخيصة. فعلى الرغم من نمو المبادلات التجارية بين البلدين في الأعوام الأخيرة، وبما صارت معه الصين في العام الماضي رابع أكبر شريك تجاري لروسيا، وصارت الأخيرة ثامن أكبر شريك تجاري للصين، فإن التوقعات تقول إن إجمالي قيمة هذه المبادلات لن تزيد على 60 مليار دولار في عام 2010، وهو ما يمثل خمس قيمة المبادلات التجارية بين الصين والولايات المتحدة في الوقت الراهن.