هذا الوضع المتدهور في العراق، وهذا التشتت العميق في العالم العربي الذي نراه في مناطق عديدة، إنما هما بعض الحصاد المرّ الذي جناه الشعب العراقي وشعوب العالم العربي ودول منطقة الخليج والجزيرة العربية، من أزمة احتلال الكويت من قبل نظام صدام حسين عام 1990، وما نجم عن ذلك الاحتلال من حرب مدمرة وانقسامات وحصار دولي وتفكك كامل في مجمل الأوضاع العربية. قيل الكثير في ذلك الاحتلال الغاشم المدمر الذي مرت في الثاني من أغسطس 2007 ذكراه السنوية. وأود هنا أن أستعرض مع القارئ بعض الآراء والتعليقات والرؤى والانتقادات التي أثيرت بالذات من قبل مجموعة من المثقفين والكُتاب والساسة العرب، في الندوة التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة بعد أشهر قليلة من هزيمة صدام وتحرير الكويت، فأسوأ طريقة للتعامل مع عِبَر الأزمات ودروس التاريخ، هو تركها في بطون الكتب! تساءل د. أحمد يوسف أحمد، من جامعة القاهرة في هذه الندوة: هل كان ما حدث في الخليج ما بين أغسطس 1990 وفبراير1991 مجرد أزمة حقاً؟ أم أنه "أكبر صراع عربي-عربي، وعربي- دولي شهدته هذه المنطقة من العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الأقل"؟ وإذا كان ما حدث كارثة بهذا الحجم، فكيف ينظر العرب إليها؟ ويجيب د. أحمد، "إن تياراً رئيسياً في المعسكر القومي العربي يصرّ على نظرة أحادية البعد تُجمِل أسباب الكارثة في عنصر واحد هو وجود مؤامرة دولية على العراق باعتباره رمز المحاولة العربية لولوج عصر التقانة، وبناء القوة الشاملة بما يتجاوز الخطوط الحمر". وتمضي هذه النظرة إلى القول: "إن الولايات المتحدة الأميركية قد "زينت" للرئيس العراقي غزو الكويت من خلال إيحاءات لسفيرتها في بغداد بأنها لن تتدخل عسكرياً إن تم هذا الغزو، وعن أن الحكم الكويتي قد دُفع إلى التشدد إزاء المطالب العراقية كجزء من خطة الاستدراج... إلخ". وفي الواقع، يقول د. أحمد في نقده لفكرة المؤامرة هذه: "إن الخلل الجسيم في هذا التحليل الذي قد يكون صحيحاً كلياً أو جزئياً أنه يغض البصر عما هو أهم: ما هي الظروف التي مكنت هذه المؤامرة الدولية من العراق خاصة والعرب عامة"؟ بمعنى، كيف نجحت هذه المؤامرة، ونحن نتحدث منذ نكبة 1948 ونكسة 1967 وحرب 1973 وحرب لبنان، وحرب العراق وإيران، بل وربما منذ قرن أو قرنين، عن مؤامرات الاستعمار والإمبريالية التي لا تنتهي والتي تتجدد كل عشر سنوات؟ متى سننجح في الإفلات من مثل هذه الخطط والمؤامرات إذن؟ وبخصوص شعارات العدالة الاجتماعية التي طرحتها القيادة العراقية، لاحظ د. أحمد أن هذه الشعارات قد طرحت ضمن مشروع مفاجئ وبمناسبة "صراع قُطري" ودون أي تمهيد سياسي يكفل لها تأييداً عربياً عاماً، إذ كانت العراق تعلن دائماً منذ 1980 وطيلة سنوات الحرب مع إيران على أهمية التضامن العربي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية! ويلاحظ على الشعار الذي رفعته هذه القيادة أنه "قد طرح بمناسبة العُسر الاقتصادي في العراق، ولم تطرحه القيادة العراقية من قبل، منذ النصف الثاني من السبعينات على سبيل المثال". فقد انهالت آنذاك على نظام صدام ثروات بترولية هائلة... بددها النظام في مغامراته السياسية والعسكرية! ومن النقاط التي ناقشها الباحث القومي المصري بجرأة وموضوعية، قضية عداء المشروع العراقي في طرحه للنظم المحافظة العربية، أي دول الخليج والجزيرة. وبيّن "أن بعض هذه النظم قد تواطأ في السابق مع الغرب الاستعماري ضد القوى القومية العربية، ولكن من المؤكد أن بعضها قد أدى في ظل مناخ ثوري معين الدور القومي المطلوب منه، ولم يُعرف عن الكويت على سبيل المثال في مرحلة المد القومي في الخمسينات والستينات موقف معادٍ للحركة القومية العربية، بل العكس هو الصحيح. كذلك قد نذكر أن نظاماً محافظاً كالنظام السعودي قد شارك في حظر النفط العربي في حرب أكتوبر 1973، بينما لم يشارك فيه نظام ثوري كالنظام العراقي على أساس أن إجراء الحظر أقل ثورية مما ينبغي، وأنه يتعين على العرب أن يؤمموا نفطهم إن شاؤوا أن يوجهوا ضربة حقيقية إلى خصومهم. ومن منظور أزمة الخليج وقف النظام الأردني "المحافظ" بجوار العراق، كما أن نظماً محافظة أخرى كالنظامين الأردني والكويتي في ظروف معينة تقبلت ممارسات ديمقراطية حقيقية لم تتقبلها حتى الآن نظم ثورية عربية راسخة". من ناحية أخرى، وفي تحليل اجمالي لسلوك النظام، فقد انطوى مشروع القيادة العراقية، يستطرد الباحث، "على قدر لا يمكن التسامح معه إنسانياً وعربياً من الاستخفاف بالديمقراطية وحقوق الإنسان.. ومن المؤسف أن أقلاماً قد كتبت وأصواتاً قد علت تحاول أن ترحب بما حدث على أساس أنه "الوحدة العربية" من خلال القوة". وذكّرَ الباحث الحاضرين في الندوة بدرس منسي من دروس عربية كثيرة فقال: "لقد تبارى المفكرون القوميون العرب منذ هزيمة 1967 في وضع احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان في موقع الصدارة من أهداف النضال العربي ووسائله، على أساس أن يكون في هذا ضمان كاف للمسيرة القومية العربية". وأخيراً، يقول د. أحمد إن مشروع القيادة العراقية، قد انطوى على محاولة لحل القضية الفلسطينية، "تتضمن قدراً هائلاً من التبسيط.. ومن الغريب أن تتصور القيادة العراقية أن القضاء على مشروع استعماري استيطاني كالمشروع الصهيوني يكاد عمره يكمل قرناً، بكل شبكة علاقاته الدولية، لا يتطلب أكثر من احتلال الكويت ثم قصف إسرائيل بعدد من الصواريخ". وكانت السيدة ليلى شرف، من وزراء الإعلام الأردنيين السابقين، ضمن المشاركين في الندوة، لتحليل موقف الأردن من أحداث الخليج. وقالت إن الموقف الرسمي كان مبنياً على قناعة مطلقة "بعدم وجوب احتلال أراضي الغير بالقوة، وهذه قناعة أخلاقية واستراتيجية بالنسبة إلى الأردن". أما الموقف الشعبي الأردني، "فقد اتسم بالدرجة الأولى بالاندفاع العاطفي الجياش". وحاولت السيدة شرف التبرير لذلك الاندفاع الجماهيري المنحاز للنظام العراقي، والذي قالت إنه كان ناتجاً عن "إحباطات متعددة ومزمنة وجدت في تصدي العراق للغرب تفريجاً لهذا الإحباط والألم". ولا شك أن المصالح الأردنية والفلسطينية، وهي مترابطة في أحيان كثيرة في الكويت، تضررت أبلغ الضرر. ومن المؤسف، ونحن نسترجع الآن ما جرى بعد كل هذه السنوات، أن موقف المثقفين الأردنيين، كما قالت السيدة شرف، لم يختلف كثيراً في جوهره عن الموقف الشعبي العام، "فقد دغدغت الطروحات التي طرحها العراق، عواطف المثقفين كما فعلت بالعواطف العامة". ورغم أن خسائر الأردن وفقاً لتقارير الدوائر الأردنية، كما جاء في ورقة السيدة شرف، كبيرة، إلى جانب "ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يفوق 25%، واتساع حزام الفقر إلى ما يقارب 30 بالمائة"، رغم هذا كله، لم يقف المثقفون مع مصالح الأردن، بل لم يقفوا حتى على الحياد! وتنتقد السيدة شرف موقفهم، الذي "قفز عن المأزق الكويتي ووضعه في المقام الثاني خلف المواجهة العراقية مع الغرب". فالعدد الأكبر من المثقفين، تقول السيدة شرف، "لم يكن يؤيد العراق في احتلاله للكويت". إلا أنهم وضعوا المعركة القادمة ضمن معارك المواجهة مع الغرب، ومواجهة مصر مع تلك الدول في العدوان الثلاثي، "على الرغم من أن جذور المواجهة المصرية كانت مع الغرب نفسه، في حين أن جذور الأزمة الحالية كانت عربية- عربية". وكانت للمثقفين سقطة أخرى، إذ بالرغم من "أن قناعة المثقفين العرب كانت منذ أكثر من عقد قد استقرت على أن الوحدة العربية لا يمكن أن تتم بقرارات فوقية أو بالقوة، فقد تراجعت هذه القناعة، على ما يبدو، تحت وطأة الصدمة والمواجهة المفاجئة، وأخذ بعض المثقفين يستحضر وحدتي ألمانيا وإيطاليا وبطليهما بمسارك وغاريبالدي اللذين حققا وحدة البلدين بالقوة". ومن الغريب حقاً أن معظم هؤلاء المثقفين كانوا يعرفون شخصية صدام ومدى قمع نظامه لمختلف الأحزاب داخل العراق، بما فيها الأحزاب القومية والإسلامية واليسارية، بل وسياسته الشديدة العداء لحرية الصحافة وسيادة القانون وغير ذلك! ولكنهم فجأة، ومن المغرب إلى العراق واليمن والسودان، وجدوا فيه رجل المرحلة التاريخية وبطل الوحدة العربية وصلاح الدين الجديد الذي سيحرر فلسطين ويحقق المستحيل! إلى متى ينجح الجمهور، لا الجهد الفكري أو المثقفون؟ هذا ما يبقى بحاجة إلى مقالات أخرى!