وصل المبعوث الفرنسي كوسران إلى بيروت قبل ثلاثة أيامٍ وللمرة الثالثة. وهو لم يتحدث هذه المرة عن جمع الأطراف اللبنانية ومحاولة التوفيق والتقارب فيما بينها. وقد حصل ذلك الجمع بواسطة الفرنسيين خلال الأسابيع الماضية مرتين: مرة في "سان كلو" قرب باريس، ومرة في السفارة الفرنسية ببيروت. هذه المرة قال المبعوث الفرنسي إنه آتٍ لتسهيل حصول الانتخابات الرئاسية في موعدها. وتبدأ مواعيدها في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، على أن يتسلَّم الرئيس الجديد زمام الأمور خَلَفاً للرئيس لحود في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. بيد أنّ أحداً من أطراف 8 آذار (مارس)، و14 آذار (مارس) -وهما المعسكران الرئيسيان المتصارعان، لا يتوقعُ انعقاد مجلس النواب لانتخاب الرئيس، أو لا يتوقع انتخاب الرئيس إذا انعقد المجلس. فأهل 8 آذار من الأطراف الشيعية، وأنصار الجنرال عون، وأنصار سوريا، لا يتحدثون إلاّ عن حكومة الوحدة الوطنية التي يريدونها أن تتمَّ الآن. وفكرتُهُم عن ذلك عودة الوزراء الشيعة إلى الحكومة، وإضافة وزراء للجنرال عون والمسيحيين الآخرين، بحيث يصبح عددُ وزراء 8 آذار (أو المعارضة) 11 من 30، فيملكون حقَّ "الفيتو" على القرارات بمجلس الوزراء. أمّا أنصار 14 آذار فيرون أنه لا فائدة من حكومةٍ موسَّعةٍ الآن إلاّ تعطيل انتخابات الرئيس -ولذلك فهم يريدون حصول انتخابات الرئيس في موعدها، وعندها تتغير الحكومة أو تتشكل حكومة جديدة بحسب الدستور. وهكذا فإنَّ المعارضة تُمسك بالزمام في رئاسة الجمهورية، بينما تُمسك المُوالاة أو 14 آذار بالحكومة. وفي حين يريد المعارضون "المشاركة" في الحكومة، ولا يهتمون بغيرها، يريد الآذاريُّون أو الأكثرية استعادة رئاسة الجمهورية من السوريين وحلفائهم ولا يهتمون لغير ذلك. إنّ حقيقة الأمر أنّ الطرفين لا يملكان الاتّفاق على حلٍّ وسطٍ يتمثل في مرشَّح توافُقيٍّ للرئاسة. ذلك أنّ الصراع السياسيَّ ما عاد داخلياً أو محلياً منذ زمن، أقرب مواعيده حربُ تموز بين "حزب الله" وإسرائيل قبل عامٍ ونيف. فقد عادت الساحة اللبنانية مجالاً للصراعات الإقليمية والدولية. كما أنها تتعرض بشكلٍ خاصٍّ لضغوطٍ بالغةٍ وهائلةٍ من جانب سوريا المجاورة. فالرئيس الحالي لحود هو الأثر السوري الوحيد الظاهر والباقي في المؤسَّسات، ومُدّتُهُ على وشك الانتهاء، ويريد السوريون بكل الوسائل أن يكونَ خَلَفُهُ شبيهاً به لكي يحفظوا مصالحهم في لبنان بعد خروجهم العسكري منه في ربيع عام 2005. ويُضافُ إلى ذلك بالنسبة لهم موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي، والتي يعتبرونها سيفاً مشهراً عليهم بعد إقرارها في مجلس الأمن، واتّجاهها للتشكُّل. وهم يعتقدون أنهم بالضغوط الأمنية (من خلال التفجيرات والاغتيالات، وأمثال "فتح الإسلام")، وبالضغوط السياسية (من خلال مواقف الفريق الشيعي، والجنرال عون، وأنصارهم الآخرين) يستطيعون منع انتخاب رئيس للجمهورية لا يوافقُهم، كما يستطيعون التأثير في مصائر المحكمة الدولية. ويمتدُّ الأمر إلى الصراع الإقليمي بين الولايات المتحدة وإيران. وكلٌّ من الطرفين يريد تحقيق "انتصارات" عسكرية وسياسية ودبلوماسية، لإرغام الفريق الآخر على التفاوض بالطريقة الملائمة له. وإيران -أو على الأقلّ أنصارها في لبنان- يعتبرون حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صديقةً للولايات المتحدة، ولذلك فإنّ إسقاطها أو إضعافها يدخل في حسابات النصر الإلهي وغير الإلهي. في حين تعتبر الولاياتُ المتحدة القوى السياسية في 8 آذار على الساحة اللبنانية خصوماً لها وأصدقاء وعملاء لسوريا وإيران. ولذلك فإنها تحرصُ على دعم حكومة الرئيس السنيورة، وقوى 14 آذار في مواجهة المعارضة، ومواجهة إيران وسوريا. ولذلك يبدو الأميركيون والأوروبيون والعرب الكبار حريصين على إجراء الانتخابات الرئاسية، لصالح إخراج لبنان من الظلّ السوري، وإعادة التوازُن إلى النظام اللبناني باستعادة هذا الموقع المسيحي المهمّ والوحيد في العالم العربي. في حين تبدو سوريا مانعةً للانتخابات الرئاسية. وتقول إيران إنّ الرئيس ينبغي أن يكونَ توافُقياً أو يتمَّ الإجماعُ عليه. وهكذا هناك طرفان صريحان في عدم إرادتهما إجراء الانتخابات لأنها إنْ جرت الآن لن تكونَ لصالحهما: المرشح الجنرال عون، والطرف السوري. يحظى الجنرال عون بدعم القوى المشاركة في 8 آذار باستثناء الموقف الغامض للرئيس نبيه بري وحركة "أمل". ولهذا فإنّ الموالين أو أهل 14 آذار يعارضون وصول الجنرال عون بشدة، وهم يملكون أكثرية نسبيةً في مجلس النواب بحيث يستحيلُ انتخابُ عون بدون أصواتهم. لكنّ هؤلاء من جهةٍ ثانيةٍ لا يملكون أكثرية الثلثين التي تتيحُ لهم بحسب الدستور انتخاب الرئيس الذي يريدون. ولذا فالظروف العادية هي أنه ينبغي التوافُقُ على رئيس وسطٍ، أي لا ينتمي صراحةً إلى معسكر معيَّن. وهؤلاء المرشحون متوافرون بكثرة داخل الأكثرية النيابية وخارجها. لكنّ الظروف غير عادية، لا في السياقات المحلية، ولا في السياقات الإقليمية والدولية. وفي عودةٍ إلى الجنرال عون: على فرض أنّ الانتخابات تمت في موعدها فلن يكونَ ذلك إلاّ نتيجةَ توافق بين الطرفين، وسيكونُ ذلك حُكماً لغير صالحه، بل لصالح استبعاده، والمجيء بمرشَّح وسط كما سبق القول. أما السوريون فيعرفون أنه بخلاف العشرين سنة الماضية، لا يستطيعون هذه المرة فرض مرشَّحهم غصباً عن الجميع. أما الظروف فلا تُساعِدُهم على الإطلاق. ذلك أنّهم يخوضون صراعاً مع العرب الكبار الذين كانوا يغطّونهم في العقود الماضية وعلى رأسهم السعودية ومصر -كما أنهم يمارسون تجاذُباً شديداً مع الولايات المتحدة التي ما عادت تريد السماح برئيسٍ قريبٍ من سوريا في لنبان! ولهذا تتلاقى مصالح كلٍ من عون وسوريا في منع حصول الانتخابات الرئاسية في موعدها حتى لا يكونَ ذلك على حسابهما. ما هي السيناريوهات القريبة أو الممكنة؟ السيناريو الأسوأ أن يتعذر التوافُق. لكنّ الرئيس لحود ينبغي أن يغادر قصر بعبدا في 22 نوفمبر. ولذلك يقول لحود إنه لن يسلّم صلاحيات الرئاسة للحكومة القائمة ورئيسها مسلم وهو يعتبرها غير شرعية. بل سيعمد لتعيين قائد الجيش رئيساً للحكومة. وقائد الجيش يعلن أنه لا يقبلُ ذلك لمخالفته للدستور، وسيكون معناه وجود حكومتين. فيعود لحود للقول إذن أُعيِّن الجنرال عون، وهو سيقبل بالتأكيد لأنه ضدّ السنيورة وحكومته! أما السيناريو الأقل سوءاً فهو أن يجري التوافُقُ في اللحظة الأخيرة على حكومة إنقاذٍ وطني أو وحدة وطنية. وهذا الأمر مجال بحث بعيداً عن الأضواء. وإذا أمكن الاتفاقُ على ذلك، فقد يمكنُ الاتفاقُ لاحقاً بمعونة العرب الكبار وإيران وفرنسا والفاتيكان على رئيس محايد للجمهورية.. وحتى قائد الجيش؛ وإن يكن لابد في هذه الحالة من تعديل الدستور. والسيناريو الثالث، الأكثر إشراقاً، أن يتوصّل الوسطاءُ الأوروبيون والعرب لجمع الأطراف على مرشَّحٍ وسطٍ للرئاسة قبل حلول الموعد، فيتمّ الانتخاب، وتأتي مع الرئيس الجديد حكومةٌ جديدة تحلّ مسألة المشاركة. حتى الآن يبدو سيناريو التوافُق غير مرجَّح. فالأطراف الداخليون متباعدون جداً. وبالأمس دار جدالٌ مُقذعٌ بين جنبلاط وعون وبري، مع أنّ ذلك لا يجري في العادة. ثم إنّ النزاع السعوديَّ / السوري، يزيد ويتمادى، وهكذا لا مظلّة عربية للتلاؤم والتوافُق. كما أنّ الصراع الإقليمي في العراق وفلسطين ليس إلى هدوء، واحتمالات الحروب الصغيرة والكبيرة قائمة. ولذا يبدو السيناريو التمهيدي الثاني هو الأقلّ سوءاً، والأكثر احتمالاً. أمّا إذا حدث الأسوأ؛ فإنّ التطورات الأمنية الداخلية ستزداد سلبية، مع ازدياد سلبية التوترات السياسية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.