في وقت تنهار فيه الجسور في الدول الصناعية المتقدمة، وتصابُ الشرَاكات الصناعية بين القطاعين العام والخاص بالإفلاس في مسقط رأس الرأسمالية الحديثة، وتقارب مطاراتُ لندن ونظام الملاحة الجوية الأميركي الانهيار، من المهم جداً التوقف عند بعض أفكار هذا العصر الموسوم بالحماس غير العقلاني وبرأسمالية السوق الطوباوية. ولعل من أبرز هذه الأفكار تلك القائلة بتفوّق المقاولة الخاصة على نظيرتها العامة؛ حيث يُفترض أن السوق هي المرشد المعصوم والأكيد للرأسمالية الحديثة؛ والحال أن السوق لا تبني البنى التحتية العمومية على اعتبار أنها تسعى إلى الربح، وليس إلى توفير الخدمات العامة. وقد قالت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت ثاتشر ذات مرة عن النفق الذي يربط بين بريطانيا وفرنسا ما معناه: "إذا رغبت الشركات في نفق، فستبنيه". يمثل هذا نموذجاً لنظرية السوق المعصومة والأكيدة، إلا أنها خاطئة في الحقيقة؛ ذلك أن الشركات لا تبني الأنفاق والبنى التحتية الخاصة بالنقل، لأنها أمور تتطلب استثمارات تعتمد على استرجاع قيمة الاستثمار على مدى عدة سنوات. فالشركات تعمل وفق عائدات دورية (كل أربعة أشهر) أو سنوية في أفضل الأحوال. فشركة "بوينج" يمكن أن تطلق مشروع طائرة جديدة قد لا تجني من ورائه عائداً لمدة عشر سنوات، غير أن عقودها العسكرية تقوم مقام دخل سنوي حكومي (في حين تتمتع منافستها "إيرباص" بقروض حكومية مضمونة). الواقع أن ثمة آليات تجارية لجمع رأسمال استثماري طويل المدى، غير أنها تتطلب دائماً نوعاً من الضمانة الحكومية. وعندما تغيب هذه الضمانة، مثلما في حالة النفق بين بريطانيا وفرنسا، ويتبين أن توقعات المطورين بخصوص الأرباح خاطئة، فإن النتيجة عادة ما تكون إعادة هيكلة القروض، والعجز عن التسديد، وتراجع قيمة السهم، إلخ. منذ السبعينات، أدت الأيديولوجيا المعارضة للحكومة والضرائب في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من البلدان الواقعة تحت تأثيرهما إلى الفشل في الحفاظ على البنى التحتية الموجودة أو استبدالها، وتخفيض أو التخلص من الوكالات الحكومية المنظِّمة والموظفين. واللافت أن الجميع تقريباً في الولايات المتحدة واع بهذا الأمر؛ حيث يمكن لكل من يستعمل الطرق السريعة والأنفاق والطائرات أن يلاحظه. غير أنه كان لابد من انهيار جسر على نهر المسيسيبي، أو تحطم طائرة، لوضعه على صدر الصفحات الأولى للصحف وسماع وعود بالتغيير. بيد أنه من غير المؤكد أن يتم الوفاء بهذه الوعود نظراً لأن إصلاح أو استبدال الجسور التي بها خلل هيكلي في الولايات المتحدة يتطلب حسب تقديرات المختصين ما يعادل جيلاً كاملاً من العمل و188 مليار دولار. والحال أن لحكومة الولايات المتحدة الفيدرالية أولوياتٍ أكبرَ مثل الحرب في الشرق الأوسط وأفغانستان. ولذلك، فإن تغيير هذه الأولويات سيتطلب أكثر من انهيار جسر واحد. ولكن ماذا عن النظام الوطني لمراقبة الجو المهمَل؟ وماذا عن الأنفاق التي يتسرب إليها الماء؟ فقبل بضعة أسابيع فقط انهار نفق جديد في بوسطن بسبب عدم تماسك سقفه. الواقع أن في إسناد مهمة بناء وصيانة البنى التحتية للخدمات العمومية إلى الشركات الخاصة، مثلما كان الحال في السنوات الأخيرة، تنصلاً صارخاً من المسؤولية من جانب الحكومات. فرصيد بريطانيا من "الشراكات الخاصة-العمومية" المنهارة مثلاً بدأ منذ خصخصة قطاع السكك الحديدية، وتعزز مؤخراً بشركة مختلطة في إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص، مسؤولة عن صيانة وتطوير ثلثي شبكة مترو لندن، ولكن إدارتها اليوم غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها بعد ما تجاوزت الكلفة التقديرات. يقول المدافعون عن مثل هذه الشراكات إن الشركات الخاصة، التي يحفزها المال، أكثر فاعلية مقارنة مع الوكالات العمومية؛ وبالتالي، فإنها ستكلف الجمهور أقل. ولكن هذا الكلام لا يعدو كونه هنا أيضاً من قبيل الأيديولوجيا البسيطة. فصحيح أن المال محفز، غير أن ذلك لا يعني أن كلفة إسناد صيانة وتسيير هذه المرافق والمنشآت، أو إدارة إحدى الخدمات العمومية، إلى شركة خاصة تسعى للربح ستكون أرخص، وأن عملها سيكون أحسن، مقارنة مع وكالة عمومية تدار إدارة جيدة؛ ولنأخذ هنا مثال فضيحة سلطة المطارات البريطانية المخصخصة، التي تسببت في إفساد عطل (أو أعمال) عشرات الآلاف من المسافرين الدوليين. في 1992، عبر الأميركيون، الرافضون لـ"الطب الاشتراكي"، عن رغبتهم في نظام صحي تديره شركات تأمين تسعى للربح بدلاً من التأمين الوطني، مثلما هو الحال في كندا ومعظم بلدان أوروبا، إذ قيل لهم إن "البيروقراطيين" الفيدراليين في نظام وطني يتخذون القرارات بدلاً من الأطباء. وهكذا، قرروا أن يسلموا موظفي شركات التأمين، الذين يعملون تحت ضغط توقعات سوق الأسهم الربعية لأرباح شركاتهم، أمر رعايتهم الطبية. ولكنهم اليوم يعضون أصابع الندم. تتمثل الفكرة من وراء الخصخصة والإصلاحات في السنوات الأخيرة في أن الناس لا يمكن أن يحفزهم شيء غير المال. غير أنها فكرة تزيل عن الإنسان إنسانيته. ثم إن العمل في الوظيفة الحكومية كان يمنح العاملين فيه المرتبة والاحترام. غير أنه بعد عقود من تشويه سمعته، فإن الكثير من ذلك دُمر، وسيكون من الصعب إصلاحه. ويليام فاف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"