تظهر العديد من الأسئلة المتصلة بحقيقة الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، وبالأخص عند الحديث عن حل لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة، مع الإدراك بأن الولايات المتحدة باتت (منذ هجمات سبتمبر) تبني مواقفها في سياق ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، مصنفةً المقاوم لمخططاتها على أنه "متطرف"، والمتساوق مع تلك المخططات على أنه "معتدل". فالرئيس بوش يؤمن بأن الصراع ليس بين الشعب الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي بقدر ما هو صراع تشهده الساحة الفلسطينية بين "المعتدلين" و"المتطرفين"، وهو ما عبر عنه صراحة الشهر الماضي حين قال: "كما في لبنان والعراق وأفغانستان، فإن النزاع في غزة والضفة هو نزاع بين المتطرفين والمعتدلين"! ثم أضاف: "إن التنازل عن الكفاح "للمتطرفين" سيكون له نتائج قاتلة على المنطقة والعالم". دعونا أولاً نتفق على أن الدعم الأميركي، غير المشروط وغير المحدود لإسرائيل في كافة المجالات، قائم على اقتناع واشنطن بضرورة وجودها في مسرح الأحداث الرئيسي في الشرق الأوسط حيث الممرات الاستراتيجية ومنابع النفط، وأنها، من هذه القاعدة، تعمل على تعطيل وإفشال أي مبادرة لا تكون هي مصدرها أو تصب في مصلحتها تماماً كما حصل مع المقترحات الروسية والفرنسية وحتى الإسبانية. فالمنظومة الفكرية التي تقود التحرك والسلوك الأميركي حالياً، وطبعاً في السابق أيضاً، تجاه عملية السلام تثبت أن "جبهة الرفض" الحقيقية إنما هي التحالف الأميركي الإسرائيلي، وليس الفلسطينيين والعرب كما تشيع وسائل الإعلام الغربية. فسياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل لا تعني تمكين إسرائيل من تهديد العرب فحسب، بل أيضاً تمكينها من رفض كل تسوية سياسية "عادلة"، لأنه ليس من مصلحة إسرائيل إقامة سلام حقيقي في المنطقة. وبناء على ذلك، بات التوتر والاحتواء، وليس الاستقرار والحل، هو الضامن والحافظ للمصالح الأميركية في المنطقة وبالتالي للمصالح الإسرائيلية. فلطالما كان رفض عديد المبادرات العربية والفلسطينية أميركياً ليس من موقف المتخوف على مسيرة السلام، وإنما انطلاقاً من موقف سياسي بعدم الموافقة الإسرائيلية على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فعلاً. وحتى إدارة كلينتون التي كانت -كما يراها البعض- أكثر الإدارات رعاية لعملية السلام منذ توقيع اتفاق أوسلو، رفضت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتعاملت معها بحذر يحدده قرار من الكونجرس مرة كل ستة أشهر. فمنذ تجاهل الرئيس السادات (في كامب ديفيد) القضية الفلسطينية، وتنازله عملياً عن الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، تحدد السقف السياسي بالنسبة للفلسطينيين أميركياً في إطار الحكم الذاتي الذي ينشده الإسرائيليون: أي حكم ذاتي على السكان دون الأرض. وعادةً ما ينعش القادة الأميركيون آمال الشعب الفلسطيني بالادعاء أنهم يؤيدون إقامة دولة فلسطينية مستقلة. إلا أن هذه "العادة" كثيراً ما تصاحبها ضغوط شتى على القيادة الفلسطينية لتقديم تنازلات مجانية في أغلب الأحوال، فيما هم من الجهة الأخرى دائماً يفشلون في ممارسة أي ضغوط حقيقية على إسرائيل! فمثلاً، لم يكن اندفاع الولايات المتحدة في نهاية عهد الرئيس ريجان للتحرك، إلا بسبب اندلاع الانتفاضة التي هددت الاستقرار في المنطقة. ولم يكن الخوف الأميركي مرتبطاً بما يجري جراء سياسة تكسير العظام والقتل والاعتقال والهدم والتهجير والإبعاد... وإنما كان يكمن في الخشية من انتقال روح الانتفاضة إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة فتتأثر دول المنطقة سلباً. وفي هذا السياق، عبّر "شيريل روتنبرغ" في دراسته حول الحوار بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية، في مجلة "دراسات"، عن خريف 1989، قائلاً: "الولايات المتحدة ملتزمة بالسماح لإسرائيل بأن تهيمن عسكرياً وتفرض الاستقرار على المنطقة". ثم يضيف قائلاً: "من المهم التمييز بين السلام والاستقرار. يمكن أن يعرف الاستقرار بأنه أي هيكل للسلطة يحافظ على الأمر الواقع المفضل للمصالح الأميركية والذي يُفرض أو يُحافظ عليه بالقوة؛ إما بقوة محلية أو بقوة عدة دول، ويتجنب الاضطرابات. أما السلام فيشمل حل النزاع بطريقة عادلة ومتوازنة لكل الأطراف بحيث يعطي لكل الأطراف مصلحة بالحفاظ عليه بدون الحاجة لأن يلجأ أحدها إلى القوة، والواقع أن السلام يمثل الحل الذي لا يفرض بالقوة". يكفي إلقاء نظرة على برنامجي الحزبين الأميركيين الرئيسيين، "الجمهوري" و"الديموقراطي"، لندرك حقيقة أن أميركا لا تسعى لتحقيق السلام الحقيقي. فبرنامج الحزب الجمهوري يعبر عن "مواصلة الحفاظ على تفوق إسرائيل النوعي على أي من خصومها، أو تحالف خصومها ومواصلة تصليب علاقتنا الاستراتيجية مع إسرائيل باتخاذ مزيد من الخطوات المحددة لتقوية تأسيس علاقاتنا. وإننا نعارض خلق دولة فلسطينية مستقلة". أما الحزب الديمقراطي فيؤكد "الحفاظ على العلاقة الخاصة مع إسرائيل القائمة على القيم المشتركة المتبادلة والمصالح الاستراتيجية"، متعهداً "بتعزيز عملية السلام من خلال المفاوضات التي عقدت بين إسرائيل وجيرانها وفق اتفاقات كامب ديفيد". والإشارة هنا إلى "كامب ديفيد" تعني بالخصوص الموقف الرسمي للحزب الديمقراطي الذي يرفض حق تقرير المصير والدولة المستقلة ويتجمد عند الحكم الذاتي! في مقال بعنوان "يتكالبون على ذبح غزة"، يؤكد "نوعام شومسكي" أن "الفوضى التي شهدها قطاع غزة ربما تؤشر على بداية النهاية للسلطة الفلسطينية، نظراً لأن البرامج الأميركية -الإسرائيلية تسعى لتحويلها إلى نظام عميل يشرف على رفض هؤلاء الحلفاء المطلق لقيام دولة مستقلة". ويضيف: "من الواضح أن واشنطن وتل أبيب لا تعترفان بفلسطين ولا تنبذان العنف، ولا تقبلان كذلك الاتفاقات السابقة. فبينما أعلنت إسرائيل رسمياً قبول خريطة الطريق، إلا أنها أرفقت هذا القبول بـ14 تحفظاً سلب القوة من هذه الخطة. في الشرط الأول، طالبت إسرائيل حتى تبدأ العملية وتستمر، بأن يلتزم الفلسطينيون بالهدوء الكامل وبثقافة السلام، ووقف التحريض، وتفكيك حماس والمنظمات الأخرى، علاوة على شروط أخرى". من جهته، يقول الباحث القانوني الدولي "ريتشارد فولك" إن مواصلة هذا النهج في ظل الظروف الحالية "يعد في واقع الأمر عملاً من أعمال الإبادة الجماعية، ويهدد بتدمير مجتمع فلسطيني بكامله هو جزء لا يتجزأ من جماعة قومية كبرى". خلاصة القول أن الموقف الأميركي لم يتوقف عن توفير الدعم المستمر والغطاء السياسي لمعظم الخطوات الإسرائيلية الرامية لفرض وقائع على الأرض تقتل فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتتجاوز أي اتفاقية موقعة مع الطرف الفلسطيني حتى لو كانت تحت الرعاية الأميركية. وطبعاً كل ذلك ضمن استراتيجية التوتر والاحتواء بدلاً من استراتيجية الاستقرار وإنجاز حل للصراع.