رغم استمرار عطلة الكونجرس بينما يقضي الرئيس بوش عطلته الصيفية في منتجعه في كروفورد تكساس، فإن أوساط واشنطن المهمومة لا تزال تواصل تأملاتها وتوقعاتها لما سيقوله كل من الجنرال ديفيد بترايوس، قائد عام القوات الأميركية في العراق، وزميله السفير الأميركي في بغداد، رايان كروكر، لدى عودتهما من العراق في سبتمبر المقبل، لإطلاع البيت الأبيض والكونجرس على التقدم الذي أحرزته استراتيجية زيادة عدد القوات، وعلى الموعد المحتمل لبدء عملية الانسحاب العسكري من العراق. وربما كانت مهمة الجنرال بترايوس أخف من مهمة زميله، لأن التفويض الممنوح له كقائد عسكري، يقتصر على الوضع الأمني وحده. وكما نعلم فقد شهد الوضع الأمني تحسناً في بعض المناطق العراقية، بسبب تعاون القبائل السنية مع القوات العراقية على سحق مقاتلي تنظيم "القاعدة" الناشطين في مناطقها. بيد أنه يتعين على السفير كروكر تقديم تقريره عما أحرز من تقدم في تطبيق المعايير السياسية المحددة، وهي المعايير التي قصد منها جميعاً تمكين الفصائل العراقية المختلفة من الاتفاق حول الدستور والأمن، فضلاً عن الاتفاق حول اقتسام عائدات الثروة وحقوق الملكية النفطية. لكن بالنظر إلى حقائق الأشياء كما هي على أرض الواقع، ليس ثمة ما هو إيجابي ليقوله السفير، عدا عن إمكانية استفادته جزئياً من امتناع تركيا عن التدخل عسكرياً في مناطق كردستان العراق، والتي تعد معقلاً وقاعدة لانطلاق عمليات "حزب العمال الكردستاني" المناوئ لحكومة أنقرة. كما لا يزال في وسع كروكر أن يشير إلى ما تردده طهران من مزاعم ورغبة في التعاون مع الولايات المتحدة في جهودها الرامية لتثبيت الأوضاع في العراق. وبالطبع فإنه بمقدور كروكر الإشارة إلى الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي الجديد، برنارد كوشنر إلى بغداد، في التاسع عشر من أغسطس الجاري، بهدف رفع الروح المعنوية للشعب العراقي، ولتقديم دعمٍ غير مباشر لجهود الولايات المتحدة هناك. غير أن ثمة عقبة رئيسية تواجه كلاً من بترايوس وكروكر، ألا وهي أن عشرات الصحفيين والخبراء والمشرعين الأميركيين، قاموا بزيارات قصيرة إلى العراق خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث التقوا بالقادة العسكريين وببعض المسؤولين السياسيين، وبأعضاء من الحكومة العراقية نفسها. والهدف بالطبع من تلك الزيارات هو معرفة حقيقة الأوضاع هناك عن كثب. وبالفعل فقد عاد هؤلاء جميعاً بأفكار ومواقف جد قوية إزاء حقيقة الوضع العراقي. ومن هؤلاء متفائل، يرجح مطالبة أميركا بمواصلة المهمة التي بدأتها هناك، مع الإبقاء على زيادة عدد القوات كما هي في مستواها الحالي، حتى حلول ربيع العام المقبل. وكما هو معلوم، فإن هذا هو الموعد الذي يتعين فيه بدء خفض القوات الأميركية المنتشرة في العراق، بالنظر إلى الأعباء الكبيرة الملقاة على كاهلها، خاصة تلك التابعة منها للجيش. ومن ناحيته يطالب جوزيف ليبرمان، السناتور المستقل من ولاية كونكتيكت، بأن تكون الخطوة التالية في مساعي إلحاق الهزيمة بمقاتلي تنظيم "القاعدة" في بلاد الرافدين، هي أن تكف دمشق عن تسريب مزيد من المجاهدين والمتطرفين عبر منافذها. وإلى ذلك يطالب آخرون مؤيدون لاستراتيجية زيادة القوات، باتخاذ إجراء أشد قوة ضد قوات الحرس الثوري الإيراني والعناصر الموالية له داخل العراق. وهناك بالطبع المتشائمون والمتشككون إزاء الأوضاع كما هي على الأرض. وهم يطالبون بتحديد مواعيد زمنية لحكومة نوري المالكي كي تبدأ بإحراز تقدم سياسي ملموس، قبل أن تضطر الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار أحادي، يقضي بتحديد جدول زمني لموعد انسحاب قواتها من بلاده. ومما لا ريب فيه أن منتقدي سياسات الإدارة في العراق، سوف يستثمرون إلى أبعد مدى ممكن، ما ورد في إحدى مقالات الرأي التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم التاسع عشر من أغسطس الحالي، وقد كتبها سبعة رقباء عائدين للتو من العراق بعد أداء الخدمة العسكرية طوال خمسة عشر شهراً متصلة هناك. وأهم ما قاله هؤلاء العسكريون، هو أن الوقت قد حان لأن تترك واشنطن أمن العراق للعراقيين. ورغم اعترافهم بحقيقة أنه لا بد أن يكون ثمة خاسر ورابح من هذا الانسحاب، فإنهم أكدوا أن الإصرار من جانب الولايات المتحدة على إرضاء جميع الأطراف، وهو ما تفعله حرفياً الآن، سوف يفضي إلى نتيجة واحدة في نهاية الأمر، ألا وهي أن يكرهها الجميع. وفيما لو حدثت تطورات إيجابية كبيرة في الوضع الراهن، سابقة لحلول موعد التقريرين المرتقبين من الجنرال بترايوس وزميله السفير كروكر، كأن تبرم مصالحة سياسية وطنية حقيقية، يعود بموجبها المسلمون السنة إلى الحكومة والعملية السياسية الجارية، وأن يتحقق نصر عسكري كبير على المسلحين في ساحة القتال، مصحوباً بتنامي مستوى تعاون كل من سوريا وإيران في استقرار الأمن في العراق... فإن في كل ذلك ما يعزز مواقع العناصر الأكثر ولاءً وتأييداًً للرئيس بوش. لكن وفيما لو تصاعدت وتائر العنف والعمل الإرهابي المناوئ، بما فيها شن هجمات مؤذية للمنطقة الخضراء نفسها، مما يعني ارتفاع عدد القتلى الأميركيين، وفي الوقت نفسه تعرضت حكومة المالكي الحالية للانهيار... فإن كل ذلك سوف يمد منتقدي إدارة بوش وسياساتها بمزيد من الطلقات والرصاص ضدها. وفضلاً عن ذلك، فإنه من المرجح أن يزداد قلق كلا الطرفين -مؤيدي بوش ومعارضيه- من إمكانية سماع ما لا يرضيه بالضبط. وهذا يعني أن بوش لن يجري تعديلات جوهرية تذكر على استراتيجيته المطبقة حالياً، بل سيتذرع بأن تلك الاستراتيجية ما تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت كي تؤتي ثمارها. أما خصومه "الديمقراطيون"، لاسيما المرشحون الرئاسيون منهم، مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما وجون إدواردز، فلن يطالب أي منهم بالانسحاب الفوري من العراق، غير أنهم سيلحون على تحديد معايير جديدة للأداء، إلى جانب إصرارهم على تحديد استراتيجية واضحة للخروج من المأزق. ولتلك الأسباب مجتمعة، فإنه ليس متوقعاً للشهادتين اللتين سيدلي بهما كل من الجنرال بترايوس والسفير كروكر، أن تضعا حداً للحوار العام الجاري عن العراق، ولا أن تحققا إجماعاً سياسياً حول ما يجب على واشنطن فعله إزاء العراق. والأرجح أن تستمر الحدة السياسية بين الأطراف لتبلغ ذروتها بحلول موعد الانتخابات الرئاسية في العام المقبل.