في السنوات الأخيرة شهدت أساليب الزراعة العضوية، وما تنتجه من أغذية عضوية (organic food)، انتشاراً هائلاً في شعبيتها، وزيادة كبيرة في حجم منتجاتها. فمنذ عقد التسعينات، وحجم سوق الأغذية العضوية ينمو بمقدار 20% عاماً بعد عام، ليصل حجمه حالياً حسب بعض التقديرات إلى أكثر من 23 مليار دولار أميركي سنوياً. ولكن ما هي بالتحديد هذه الأغذية العضوية؟ وما هي فوائدها التي جعلتها تلقى مثل هذا الإقبال الهائل من قبل المستهلكين؟ ببساطة، الأغذية العضوية هي تلك التي يتم إنتاجها وفقاً لأساليب ومعايير محددة وصارمة. ففي حالة المحاصيل الزراعية مثلاً، يشترط عدم استخدام المبيدات الحشرية الكيميائية، أو الأسمدة والمخصِّبات الكيميائية، أو الفضلات البشرية، أو مخرجات الصرف الصحي. وفي حالة تصنيع هذه الأغذية، لابد من عدم إضافة المواد الحافظة أو الملونات لغرض تغيير خواصها أو قوامها، وعدم استخدام الإشعاع لغرض تعقيمها. وفي حالة المنتجات الحيوانية، يشترط عدم استخدام المضادات الحيوية، أو الهرمونات المحفزة على النمو. وفي الكثير من الدول، يجب أن يكون كل من هذه المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية، خالياً من أي تعديل جيني أو وراثي. وبالنظر إلى هذه الشروط، يمكن أن نستنتج تلقائياً أن الزراعة العضوية تعني التخلص من العديد من أساليب الزراعة الحديثة، كاعتمادها على المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية، أو المضادات الحيوية والهرمونات. وهو ما يعني العودة بالزراعة وبإنتاج الحيوانات إلى شكلها التقليدي الذي مارسه الإنسان منذ بدايات تاريخه على سطح هذا الكوكب، إلى بدايات العصر الحديث والذي شهد اعتماداً متزايداً على المركبات الكيميائية، فيما يعرف بالزراعة المكثفة، لزيادة إنتاجية المحاصيل وزيادة العائد من تربية الحيوانات. هذا العرض المُبسط لشروط الزراعة العضوية، لا يأخذ في الحسبان الاختلافات في القوانين والشروط المحلية بين دولة وأخرى، والتي تمتد أحياناً لتشمل طرق وأساليب تعليب وتغليف هذه المنتجات، حتى تستحق بجدارة لقب منتج عضوي. ولكن ما هي فوائد الزراعة العضوية، التي جعلتها تشهد مثل هذا النمو والإقبال الهائل؟ أولى تلك الفوائد تنصب على التأثير البيئي، مقارنة بتأثير الزراعة المكثفة. فعلى سبيل المثال، لا تصرف المزارع العضوية نفس الكمية من المبيدات الحشرية الكيميائية في البيئة، مقارنة بالمزارع العادية، فهذه المبيدات تتراكم في المحيط البيئي، وتؤدي إلى عواقب وخيمة على الحياة الطبيعية المحلية. هذا بالإضافة إلى أن الاعتماد على الأساليب الطبيعية في المزارع العضوية، لا يؤثر على التوازن البيئي، ويضمن استمرار التنوع البيئي داخل المزرعة وفي جوارها. وفي النهاية، تستهلك المزارع العضوية كميات أقل بكثير من الطاقة، وتنتج حجماً أقل من المخلفات والقمامة، مقارنة بالمزارع العادية، لإنتاج نفس الكمية من المحاصيل أو من المنتجات الحيوانية. وإذا ما انتقلنا إلى الإنسان، فسنجد أن أكبر مزايا المزارع العضوية ينصب حول خفض استخدام المبيدات الحشرية الاصطناعية، وبالتالي تقليل تأثيرها الضار على كل من المزارعين والمستهلكين. فالمعروف أنه في المزارع العادية، وحتى في ظل الالتزام بالإرشادات، تتأثر صحة المزارعين من جراء الاستخدام المكثف للمبيدات الحشرية. وتظهر أعراض هذا التأثر في شكل آلام في البطن، وصداع، وغثيان، وقيْء، ومشاكل في الجلد والعينين. وفي الحالات الخطيرة تتسبب هذه المبيدات في أمراض تنفسية، واضطرابات في الذاكرة، وأمراض سرطانية، واكتئاب، وقصور عصبي، بالإضافة إلى الإجهاض لدى النساء الحوامل والعيوب الخلقية لدى المواليد الجدد. هذه الآثار الصحية للمبيدات الحشرية، ربما كانت هي الدافع الأساسي خلف تزايد طلب المستهلكين للأغذية العضوية، على رغم أن بعض الدراسات تظهر أن 90% من المحاصيل والمنتجات الحيوانية التي تخرج من المزارع العادية، تصل إلى المستهلك دون أية بقايا من تلك المبيدات الحشرية بالمرة. ولكن هذا لا يعني أن العشرة في المئة الباقية، لا تحمل معها مخاطر صحية، وخصوصاً على الأطفال، ففي عام 1993، صدرت دراسة عن المجلس الوطني للأبحاث (National Research Council) بالولايات المتحدة، أظهرت أن السبب الرئيسي لتعرض الأطفال للمبيدات الحشرية هو الأغذية الملوثة. وفي دراسة صدرت العام الماضي، أثبت العلماء أن تغيير نوعية الغذاء من غير عضوي إلى عضوي، نجح في خفض مستويات المبيدات الحشرية في دماء مجموعة من طلبة المدارس، وبشكل هائل وفوري. وأمام هذه الفوائد الجمة للأغذية العضوية، تبقى مشكلة واحدة مهمة، وهي ارتفاع تكلفتها بقدر كبير مقارنة بالأغذية غير العضوية. فالأغذية العضوية غالباً ما يزيد سعرها عن الأغذية غير العضوية بمقدار 10% إلى 40%، وهو ما يعتبر فرقاً هائلاً في السعر للعائلات الفقيرة ومتوسطة الدخل، وأحياناً ما يزيد فارق السعر عن هذا القدر، ففي عام 2004، أجرت إحدى المجلات الأسترالية المعنية بشؤون المستهلك دراسة مقارنة عن أسعار الأغذية العضوية وغير العضوية، لتكتشف أن الفارق يصل أحياناً إلى 65%، وهو ما يعتبر فارقاً هائلاً بالنسبة للعائلات الفقيرة ومتوسطة الدخل. وإذا ما وضعنا أيضاً في الاعتبار أن الزراعة العضوية لا تنتج نفس القدر من المحاصيل، باستخدام نفس المساحة من الأرض، سندرك أنها خيار غير عملي في الدول التي تعاني من شح المساحات القابلة للزراعة، والتي تكافح عاماً بعد عام لتدرأ شبح الجوع عن سكانها. وأمام هذه الحسابات الاقتصادية، تبقى المحاصيل والمنتجات العضوية، على رغم فوائدها الصحية، رفاهية لا يقدر على ثمنها إلا الأغنياء.