هناك اتفاق بين أطراف المجتمع الدولي المختلفة على أن الحل الأمثل لحل الصراع العربي- الإسرائيلي، هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية في إطار معاهدة سلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. غير أن اقتراح الدولة الفلسطينية المستقلة لم يكن يلقى قبولاً من النخب الإسرائيلية الحاكمة التي تنتمي إلى أحزاب سياسية شتى، والتي حكمت في مراحل تاريخية مختلفة. غير أن هذا الموقف الإسرائيلي المبدئي الذي يتمثل في الرفض المطلق لحقته تغيرات جذرية، فتحت الطريق أمام القبول النسبي بالدولة الفلسطينية. ولقد لعب التغير في مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي، وطريقة إدراك النخبة السياسية الحاكمة له دوراً أساسياً في هذا التطور، باعتبار أن الأمن القومي هو الهاجس الرئيسي للمجتمع الإسرائيلي. ويمكن القول إن القبول الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية المستقلة يفتح الباب أمام حل الصراع العربي الإسرائيلي. وحل هذا الصراع في جميع الأحوال -مثله في ذلك مثل الصراعات الممتدة الأخرى- لا تكفي فيه التغيرات في مواقف السلطة الفلسطينية من زاوية الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها، ولا التغيرات في موقف الدولة الإسرائيلية من زاوية الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، ولكنه يعتمد أيضاً على مواقف أطراف خارجية متعددة. بل إنه بالإضافة إلى اعتبارات الأمن القومي وهي بالغة الأهمية، هناك تأثيرات السياسات الداخلية لدى كل طرف من أطراف الصراع، بالإضافة إلى السرد التاريخي المتضاد الذي يتبناه كل طرف. ولا ننسى أيضاً تأثير الدين والعواطف القومية المشبوبة هناك وهناك. ونحن حين نتحدث عن تأثير مجتمع الأمن Security Community على اختيارات إسرائيل، فنحن نعني في الواقع عدة عناصر تنتمي إلى القوات المسلحة وأجهزة المخابرات والقادة العسكريين السابقين، ورجال الدبلوماسية، بالإضافة إلى الأكاديميين المعنيين بالأمن القومي. فآراء كل فئة من هذه الفئات تلعب دوراً في تشكيل المواقف السياسية الإسرائيلية فيما يتعلق بحل الصراع. ويمكن القول إن الإشارة للخلفية التاريخية وخصوصاً آثار الانتصار الإسرائيلي الساحق في حرب يونيو 1967، يمكن أن تساعدنا على فهم تبلور وتغيرات الإدراكات الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسطيني في الحقبة التي تلت حرب يونيو. وقد وجدت إسرائيل نفسها في موقف استثنائي عقب احتلال الضفة الغربية وغزة، وهو موقف لم يكن متوقعاً قبل الحرب. ونتيجة لهذا الموقف فقد نشأ تياران داخل مجتمع الأمن الإسرائيلي. التيار الأول ذهب إلى أنه يمكن استخدام هذه الأراضي المحتلة كأوراق تفاوضية تساوم بها إسرائيل في مجال حل الصراع العربي- الإسرائيلي. والتيار الثاني كان من أنصار الاحتلال الدائم للأراضي، وقمع أي هبَّات فلسطينية قد تحدث. وقد سيطر التيار الأول على العقل الأمني الإسرائيلي عقب نهاية الحرب، ومن هنا اتخذ قرار بعدم ضم الأراضي المحتلة إلى إسرائيل، ما عدا استثناء واحد وهو ضم شرق القدس وضواحيها، الذي تم بناء على قرار إداري صدر في يونيو 1967، وصدق عليه "الكنيست" بعد ذلك في القانون الأساسي الخاص بالقدس. ولم يكن في هذا الوقت مجال للقومية الفلسطينية، وبالتالي لم يكن هناك حديث عن الدولة الفلسطينية في التفكير الأمني الإسرائيلي. فقد كانت المشكلة الرئيسية هي عدم قبول العرب لدولة يهودية في منطقة الشرق الأوسط. وكان الإدراك الإسرائيلي في هذا الوقت أن القومية الفلسطينية هي مجرد فصيل من فصائل التيار القومي الذي كان رمزه جمال عبدالناصر، والذي كان يعتبر عدو إسرائيل الرئيسي. وهذا الفصيل -في الإدراك الإسرائيلي- كانت وظيفته الإسهام في الحرب ضد إسرائيل لتدميرها. ولقد كان هذا تحولاً خطيراً لأنه حوَّل الصراع حول أراضٍ متنازع عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى صراع وجودي بين شعبين يعيشان على نفس الأرض. وقد تمثل الإنكار الإسرائيلي للطرف الآخر في الصراع في تصريح جولدا مائير الشهير الذي صدر عام 1969، حين قررت أنه "ليس هناك شيء اسمه الفلسطينيون. ومتى كان هناك وجود مستقل لشعب يعيش داخل دولة فلسطينية"؟ ومعنى هذا التصريح أن مصير الأراضي المحتلة ينبغي التفاوض بشأنه مع الدول التي كانت تسيطر على الضفة الغربية وغزة قبل حرب 1967، ونعني الأردن ومصر. وفي هذه المرحلة التاريخية تم إعلاء الاعتبارات الجغرافية على الاعتبارات السكانية. وكان الشعار السائد هو ضرورة أن تكون لإسرائيل حدود يمكن الدفاع عنها. غير أن سقوط تحالف "حزب العمل" عام 1977، وصعود تحالف "الليكود" برئاسة مناحيم بيجن، أدى إلى تغير أساسي في التفكير الإسرائيلي. فقد خفت صوت شعار الحدود التي يمكن الدفاع عنها لتحل محله نظرية أخرى متكاملة مبناها أن الدولة الإسرائيلية لها حقوق تاريخية ودينية على مجمل أرض إسرائيل الكبرى Eretz Yisrael وهي فلسطين التاريخية. وأن هناك التزاماً على عاتق الإسرائيليين باستعمار واستيطان هذه الأراضي، وليس فقط لأغراض الأمن. وحين جاءت اتفاقية كامب دافيد سقط الشق الفلسطيني فيها لرفض منظمة التحرير الفلسطينية الاتفاق من ناحية المبدأ. ولاشك أن تطورات الأحداث من بعد ذلك وخصوصاً اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية عام 1987، كان لها وقع عميق على كل من النفسية الإسرائيلية والتفكير الأمني الإسرائيلي. وقد خلصت القيادات الأمنية الإسرائيلية إلى نتائج مهمة بعد تحليل أحداث الانتفاضة، أهمها أن الشعب الفلسطيني لن يقبل الاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية. ومن ناحية أخرى فإن الخطاب الإسرائيلي التقليدي الذي كان يذهب إلى أنه ليس هناك شعب فلسطيني، ثبت من الممارسة أنه خطاب فارغ من المضمون! وذلك لأن أبناء هذا الشعب هم الذين هبُّوا للدفاع عن حقوقهم المسلوبة في ظل الاحتلال. بل إنه يمكن القول إن نضالهم ضد الاحتلال ساعد في بلورة الهوية الفلسطينية ذاتها. ومما لاشك فيه أن إحدى النتائج المهمة للانتفاضة اكتشاف النخبة الحاكمة الإسرائيلية أنه لا يمكن إخضاع شعب للاحتلال بالقوة المسلحة بدون خرق فاضح لحقوق الإنسان. وهي مسألة لا يمكن أن يتحمل تبعتها نظام ديمقراطي. ولا ننسى في هذا الصدد مزاعم إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط! وإذا ثبت يقيناً أن الحل العسكري مستحيل، فلم يعد هناك سوى الحل السياسي، وهذا ما رددته أكثر من مرة القيادات العسكرية الإسرائيلية. ومعنى ذلك ضرورة التفاوض المباشر مع ممثلي الشعب الفلسطيني، خصوصاً بعد سقوط فكرة الخيار الأردني، والذي عبر عنه الملك حسين في يوليو 1988 حين تنازل عن كل الحقوق في الضفة الغربية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع أن هناك مناقشات عميقة دارت في دوائر المجتمع الأمني الإسرائيلي حول هذه النتائج المهمة، إلا أن القيادة السياسية الإسرائيلية كانت هي الأبطأ في إدراك عمق التغيرات التي لحقت بساحة الصراع العربي- الإسرائيلي.