لا أدلّ على رسوخ "نظرية المؤامرة" أو "العقلية التآمرية" في نفوس الجماهير والنخب العربية والإسلامية، وتغلغلها في وجدانهم وتمكنها من عقولهم وتشكيلها لمواقفهم السياسية وتصوراتهم تجاه الآخر، من قضية "ممرضات الإيدز" البلغاريات في ليبيا. لقد اتفق شعب بأكمله: حكومته ومؤسساته السياسية والإعلامية والقضائية، وآمنوا إيماناً مؤكداً بصحة الاتهامات الموجهة إلى الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني في كونهم تعمدوا وقصدوا إلحاق الأذى بـ462 طفلاً ليبياً، تم حقنهم بدماء ملوثة بفيروس الإيدز عام 1998، بمستشفى بنغازي بليبيا. آمن الجميع بأن هؤلاء المتهمين مجرمون، وهم أدوات بيد "الموساد" استغلهم ووظّفهم في هذه الجريمة البشعة والتي تعد الأفظع في حق الطفولة والإنسانية، ولم يتوقف هذا الإيمان على الشعب الليبي فحسب بل امتد إلى النخب الفكرية والإعلامية العربية التي قامت بالتعتيم على حجج الطرف الآخر المتهم في القضية في تواطؤ أو تعاطف مع الشعب الليبي باعتبار أن ذلك واجب قومي نضالي. هكذا تم حجب الحقيقة طوال 8 سنوات تعرض فيها المتهمون لصنوف التعذيب الرهيب، ولم يبادر أحد من المحامين العرب ولا نقابة المحامين العرب التي طالما جنّدت نفسها للدفاع عن الطغاة العرب، للدفاع حتى عن الطبيب العربي المتهم أو حتى بالتنديد بالتعذيب الذي تعرّض له والذي وصفه فيما بعد بقوله: "عذبوني مثل دجاجة مشوية". نعم طويت القضية في سياق قضية قومية كبرى وأطفال مستهدفين من قبل "الموساد" والأعداء الأزليين. لم يتوقف عقلٌ راشدٌ ولا منطقٌ بصيرٌ ليتساءل: لماذا تتعمّد "ملائكة الرحمة" إيذاء أطفال أبرياء؟ وما مصلحتهم في ذلك؟! ثم لماذا يستهدف "الموساد" أطفال ليبيا بالذات دون غيرهم؟ هكذا جرت المحاكمة تحت ضغوط رأي عام مشحون ومستفز يطالب بالقصاص والانتقام، فصدر الحكم بالإعدام رمياً بالرصاص عام 2004. وكان قد تم احتجاز المتهمين منذ عام 1999، لكن الرأي العام الأوروبي تحرك مطالباً حكوماته بالتدخل لوقف الحكم، فدخلت القضية في سلسلة من الإجراءات القانونية بين استئناف ونقض وإعادة محاكمة ثم تثبيت الحكم من قبل المحكمة العليا، لتبدأ فصول رواية جديدة تمثلت في تسوية سياسية يخفف فيها الحكم على "المدانين" إلى السجن ثم يرحّلون إلى بلغاريا لتعفو عنهم. بعد سجن دام 8 سنوات؛ أين الحقيقة وهل الممرضات بريئات؟ الاتهام ومنذ البداية لا سند له إلا تحقيقاً أجري على غير وجهه المشروع بهدف التغطية على أناس متنفذين تسببوا في هذه القضية وتم تحميل الممرضات المسؤولية! ومعروف أن أوضاع المستشفيات الليبية كانت متردية، والخدمة الطبية المقدمة للجمهور، سيئة فضلاً عن انعدام النظافة والنقص في المعدات والمستلزمات الطبية، بسبب تفشي الفساد الإداري من جهة، وظروف الحصار الذي كان مفروضاً من جهة أخرى، بمعنى أن المسؤولية الحقيقية تقع على إدارة المستشفى لا الممرضات. لكن حتى يتفادى الجناة الحقيقيون نقمة الشعب الليبي، تم تقديم الممرضات والطبيب "كباش فداء". وعبر أساليب تعذيب متنوعة تم انتزاع اعترافات بمسؤوليتهم، وليست المشكلة في تضليل وخداع الجماهير، فهذا حاصل ومستمر عند الجميع، لكن كيف انطلى هذا الخداع وذلك التضليل على القضاة رغم كل القرائن والملابسات التي أحاطت بالقضية منذ البداية، مما يحول دون إمكانية تصور أن تؤذي الممرضات أطفالاً أبرياء إلا على سبيل الخطأ غير المقصود؟ الأخطاء الطبية تقع حتى في أرقى المستشفيات تجهيزاً وخدمة، لكن القضاء لا يصدر أحكاماً بالإعدام على الأخطاء الطبية! إذن لماذا الحكم بالإعدام؟ هذه القضية توضح لنا بجلاء أن القضاء ليس في منأى من التأثر بقضايا الرأي العام -سلباً أو إيجاباً- وللأسف لا توجد بأيدينا ضمانات كافية لحماية القاضي إلا بالمراهنة على إعلام "راشد" ووعي عام "مستنير"، وذلكما لا سبيل إليهما حتى الآن في واقعنا العربي الراهن. لقد شهد خبيران: فرنسي وإيطالي، أمام المحكمة بأن إصابة الأطفال كانت بسبب انعدام النظافة وليست إساءة متعمدة من الطاقم الطبي، لكن المحكمة -تحت ضغط الرأي العام- لم تأبه بشهادتهما. لكن الظلم له نهاية، والله لا يرضى به، وزمن المواجهات والعنتريات قد ولَى، كما صرح الزعيم الليبي نفسه، وحل محله زمن المصالح المشتركة. كان لابد للعدالة أن تأتي ولو متأخرة، وهكذا قيّض الله ومن داخل النظام نفسه من يكبح جماح الاندفاعة العاطفية لجهة حماية النظام نفسه واستدامته وإن بأسلوب مختلف، فقام "سيف الإسلام" نجل الزعيم الليبي، بلعب دور رئيسي في فرملة القضية عبر صفقة استراتيجية ضخمة لمصلحة الشعب الليبي نفسه، فكان الوحيد بين أبناء ليبيا الذي وقف معترضاً: ما مصلحة الممرضات والطبيب العربي في إلحاق الأذى بأطفال ليبيا وقد أتوا لمساعدتهم؟ بذل "سيف الإسلام" جهوداً خارقة في سبيل إثبات التعذيب الذي تعرض له المتهمون وكشف تردي الخدمات الطبية، وصرّح علناً ومنذ عام 2005 أنه يعتقد ببراءة الممرضات والطبيب، وانتقد السلطات وفنّد فكرة المؤامرة، مبيّناً تناقضها وتهافتها. وبلغت به الصراحة أن قال: "نحن الليبيين اختلقنا هذه القضية، لقد ألّفوا قصة وأجبروا البلغاريات على الإقرار بشيء ما، ومن ثم صارت لدينا رواية، ومؤامرة، وتكوّن لدينا هذا الملف المعقد الذي استغرقنا 8 أعوام". ترى ما دافع نجل القذافي لمراجعة النفس ونقد الذات بدلاً من اتهام الآخر؟ إنها المصالح العليا الليبية التي أصبحت مهدّدة، إذ قالت أوروبا وأميركا بوضوح وبحسم: لا تطبيع مع طرابلس قبل حل قضية الممرضات! نجل القذافي ينقد بلاده، وبعض كتابنا من المسكونين بالهاجس التآمري الذي هيمن على تفكيرهم يندبون حظ العرب ويولولون تعاسة، يكتب أحدهم بعنوان "بيع النفس البشرية" يقول: "ووصل الجناةُ الأبطال إلى صوفيا واستقبلوا بالورود... وأصدر الرئيس البلغاري عفواً عن القتلة ليضيع دم الأطفال هباءً وتنتهي التمثيلية". وكاتبة أخرى تعض إصبعها ألماً وحسرة، فتقول: "حقيقة ما أرخص الإنسان العربي، لكني لا ألوم الغرب على تحيزهم لشعوبهم حتى لو كانت هناك قرائن وبراهين قاطعة تدين تورطهم". أين المنطق والبصيرة في هذه الأقوال الحماسية الزائفة؟ ترى من هم الجناة حقاً؛ الممرضات ملائكة الرحمة أم المسؤولون الفاسدون؟ وأين البراهين القاطعة على الاتهام؟ ومن الذي يكيل بمكيالين بل بعشرة، نحن أم هم؟ وكيف نتناسى حقوق الإنسان المتهم في محاكمة عادلة وقبلها في إجراءات تحقيق عادلة؟ ولماذا ننسى دائماً في غمرة القومية والاندفاعة الحماسية وعندما يكون المتهم طرفاً خارجياً، قوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"؟! إنها جناية استحواذ الفكر التآمري وهؤلاء هم ضحاياه.