في الخامس عشر من شهر سبتمبر المقبل، يتوقع أن يطلع الجنرال "ديفيد بترايوس"، البيت الأبيض على تقويمه لموقف الولايات المتحدة الأميركية من حربها الدائرة في العراق، فضلاً عن تقديم أفكاره ومقترحاته بشأن ما يجب عمله لاحقاً. وكان الرئيس بوش هو الذي حدد موعد الخامس عشر من سبتمبر المذكور، لدى رفضه للتوصيات التي تضمنها تقرير "مجموعة دراسات العراق" في شهر ديسمبر الماضي. وضمن ما أوصت به المجموعة هذه، حث الإدارة على إيجاد مخرج لها من حرب العراق، باستقطاب عون الدول الإقليمية المجاورة للعراق. غير أن الرئيس بوش قرر الأخذ بنصيحة من تبقَّى حوله من المحافظين الجدد الأشداء في واشنطن، ومن ثم تبني ما يسمى بـ"استراتيجية زيادة عدد القوات". وتتلخص هذه الاستراتيجية في الخطة القائمة على بسط الأمن في العاصمة بغداد، بواسطة تأمين ضواحيها، ليتبع ذلك "التنظيف" المنظم لبقية المدن والضواحي العراقية من وجود المتمردين. وبالنتيجة فقد صرفت هذه الاستراتيجية الأنظار عما توصلت إليه "مجموعة دراسات العراق"، التي لم تكن توصياتها لتحظى بقبول الرئيس بوش، لأسباب شخصية تعود إلى كون رئيس المجموعة من الطاقم المشارك في إدارة والده، وأن التقرير قد وجه انتقادات لبوش الابن. ثم إنه لم تكن من الأسباب ما تحمل على الاعتقاد باحتمال نجاح توصيات المجموعة تلك، تماماً هي ضئيلة احتمالات نجاح استراتيجية "الزيادة" المطبقة حالياً. على أن الموعد المحدد لتقرير الجنرال بترايوس في الخامس عشر من الشهر المقبل، ربما بدا طائشاً نوعاً مَّا. فالمقصود هو أن يقدم الجنرال نتائج إيجابية عن سير الأداء الميداني في العراق. غير أن الاستراتيجية التي جرى تطبيقها لم تأت بنتائج تختلف كثيراً عن التكتيكات الحربية التقليدية المعروفة، التي تتبنى خيار تصعيد الحرب وتوسيع جبهات القتال، على أمل كسر ظهر العدو الرئيسي في نهاية الأمر، الذي هو الجماعة الرئيسية المتمردة في الحالة العراقية. فالذي حدث هو أن الزيادة الكبيرة في نشر الجنود الأميركيين في العراق، قد ساهمت في خفض معدل الهجمات المعادية، فضلاً عن خفضها لعدد القتلى في بعض المناطق، في مقابل زيادة الهجمات وعدد القتلى في المناطق التي لم يتم فيها تعزيز وحدات الأمن العراقية والقوات الأميركية نفسها بالمزيد من المقاتلين. وها قد حان الوقت الآن لتقويم نتائج هذه الاستراتيجية. وهذا ما دعا البيت الأبيض الأسبوع الماضي للتحرك لإقناع الكونجرس بالموافقة على أن يقدم الجنرال "بترايوس" وكذلك السفير الأميركي لدى العراق، "رايان كروكر"، تقويمهما أمام البيت الأبيض أولاً، على أن يعقب ذلك تقديم النتائج نفسها إلى الكونجرس في وثيقة يعدها موظفو وأفراد الطاقم الرئاسي، على أن تتضمن ما يضيفه إليها المسؤولان المكلفان، أي الجنرال "بترايوس" والسفير الأميركي في العراق. وهذا ما رفضه قادة كل من مجلسي النواب والشيوخ مذكرين الرئيس بوش، بأن التشريع الذي صادق عليه في شهر مايو الماضي، طالب تحديداً بأن يقدم كل من "بترايوس" و"كروكر" تقاريرهما شخصياً أمام الكونجرس. وبالطبع فإن البيت الأبيض يبدي تخوفاً من أن تسفر الشهادة الشخصية لهذين المسؤولين أمام الكونجرس عن تقويض الاستراتيجية الأمنية التي تمسك بها الرئيس وأصر على تطبيقها، بدلاً من الأخذ بتوصيات مجموعة دراسات العراق. وبعدُ فما عسى أن يقوله هذان المسؤولان أمام الكونجرس؟ هل نتوقع منهما أن يقطعا كل هذه المسافة الشاسعة الفاصلة بين بغداد وواشنطن، ليقفا أمام الكونجرس ويشهدا على فشل استراتيجية الإدارة؟ ألا ماأبعدَ هذا عن السماء نفسها! فبحكم كونه قائداً عسكرياً متمرساً، فإنه ليس متوقعاً من الجنرال "بترايوس" أن يقف أمام الكونجرس ليخبر أعضاءه أن إخماد نيران التمرد في العراق، مهمة تستعصي على قدرات الجيش الأميركي. وبما أن "بترايوس" نفسه قد اعترف بأن التزامه إزاء الكونجرس هو تماماً بقدر التزامه أمام الإدارة، فإنه يتعين عليه إذن التصدي لمسألة انسحاب قواته من العراق. يذكر أن معظم القادة "الديمقراطيين"، وكذلك مرشحوهم الرئاسيون، باتوا على قناعة بشكل أو آخر بضرورة بقاء القوات الأميركية في العراق، مدفوعين في ذلك بالمخاوف من التداعيات الأمنية والإقليمية الخطيرة التي يخلفها الانسحاب. بيد أن هناك سبباً آخر يحرك هذه القناعة، ويتلخص في أن الاستثمارات الأميركية في العراق -دعك من الحديث عن السفارة الأميركية في بغداد، هي أكبر سفارات العالم على الإطلاق- هي من الامتياز والضخامة بحيث يجعل الحديث عن الانسحاب أمراً مستحيلاً في الأساس. يُشار أيضاً إلى أن القاعدة التي تقوم عليها السياسة الأميركية، وخاصة مفهوم البنتاجون البعيد المدى عنها، هي تطويق العالم بشبكة من القواعد العسكرية الأميركية، بحيث تتمكن هذه القواعد من بسط الأمن الإقليمي والدولي على نطاق العالم بأسره، في ذات الوقت الذي تعمل فيه على توفير الضمانات اللازمة لاستمرار تدفق منتجات الطاقة والمواد الخام إلى الولايات المتحدة الأميركية من شتى بقاع العالم وأنحائه. وبما أن تلك هي القاعدة والأهداف الراسخة، فما من شيء يدفع أميركا للتخلي عنها هنا في العراق مهما كان الثمن، إلا في الحالات الاستثنائية النادرة التي تخرج فيها الأمور عن السيطرة كلياً. وهذا هو ما يدعونا إلى التكهن بأن الشهادة التي سيدلي بها كل من الجنرال "بترايوس" وزميله السفير الأميركي في العراق، سوف تذهب إلى القول: إن المهمة الاميركية في العراق لا تزال عصية ومحاطة بالصعاب والمخاطر، غير أن تحقيقها لا يزال ممكناً. كما يتوقع لهما أن يكررا ترديد ذات المسببات التي تجعل من الانسحاب أمراً مستحيلاً. على أن من المتوقع أيضاً أن تتضمن إفادتا المسؤولين، إشارات واعترافات بعدم سير استراتيجية زيادة عدد القوات التي تم تطبيقها، على النحو المأمول الذي وضعت من أجله. وفي المقابل فقد أطلقت برامج أمنية جديدة للتو، بهدف كسر تجمعات المتمردين، جنباً إلى جنب الجهود المبذولة لاستقطاب العناصر السنية الحليفة للقتال ضد عناصر تنظيم "القاعدة". وخلاصة القول: إن الرؤية العسكرية لا تسير على خط واحد مستقيم كما يتخيلها البعض، وإن خياراتها تظل مفتوحة دائماً على أفق التطورات الميدانية. وإلى ذلك يتوقع أن يكون للسفير ما يقوله عن صمود الحكومة العراقية القائمة رغم القلاقل الكبيرة المحيطة بها من كل جانب، فضلاً عن تلخيصه لمجرى عملية المصالحة الوطنية. كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"