توجد في عالم الطب مجموعة من الأمراض، تعرف بأمراض الجهاز الدوري والشرايين (Cardiovascular Diseases)، مثل أمراض الشرايين التاجية المُغذية لعضلة القلب، وأمراض شرايين المخ، وأمراض الشرايين الطرفية، وغيرها. هذه الأمراض، وخصوصاً أمراض شرايين القلب وشرايين المخ، هي السبب الأول في الوفيات بين أفراد الجنس البشري، بحيث لا تضاهيها في أعداد الضحايا، أية مجموعة أو طائفة أخرى من الأمراض. فالتقديرات الدولية تشير إلى أن أمراض الجهاز الدوري والشرايين، تقتل سنوياً أكثر من ثمانية عشر مليون شخص، أو ما يعادل 30% من مجمل الوفيات البشرية السنوية. ومن بين هذه الملايين، تتسبب أمراض الشرايين التاجية وحدها في قرابة الثمانية ملايين وفاة، بينما تتسبب أمراض شرايين المخ في قرابة الستة ملايين وفاة. هذا الوضع يتوقع له أن يزداد سوءاً بمرور الوقت، فبحلول عام 2015 مثلاً، يتوقع أن تتسبب أمراض الشرايين في أكثر من 20 مليون وفاة، معظمها سيكون من الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، لتبقى بذلك هذه المجموعة من الأمراض على رأس قائمة أسباب الوفيات بين الجنس البشري. ولكن لماذا تمرض شرايين البشر على هذا النطاق الواسع؟ وماذا يمكن فعله لوقف الانتشار المتزايد لتهالك وتصلب وانسداد الشرايين البشرية؟ إجابة هذين السؤالين تتلخص في عوامل الخطر، أو العوامل المعروف عنها تسببها في مرض الشرايين، والإصابة بالذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، ومن ثم الوفاة. وللتبسيط، يتم تقسيم هذه العوامل إلى قسمين: الأول هو العوامل التي لا يمكن تغييرها، والثاني هو العوامل التي يمكن تغييرها. تحت قسم العوامل التي لا يمكن تغييرها، يندرج كل من العمر، والجنس، والوراثة أو التاريخ العائلي. أما العوامل التي يمكن تغييرها فهي كثيرة، ولذا سنكتفي هنا بذكر أهمها، وهي: السمنة أو زيادة الوزن، وعدم ممارسة التمارين الرياضية أو القيام بالنشاط البدني الكافي، والتدخين، والإصابة بداء السكري، وارتفاع نسبة الدهون في الدم، والتوتر المزمن، والاكتئاب، والحياة في بيئة ملوثة بالضوضاء، وارتفاع ضغط الدم، المعروف أحياناً بـ"القاتل الصامت" (silent killer). هذا السبب الأخير بالتحديد، يشهد حالياً تزايداً مطرداً، يصل إلى درجة الوباء. ففي بداية هذا الأسبوع، حذرت افتتاحية واحدة من أشهر الدوريات الطبية (The Lancet)، من أن أسلوب الحياة الحديثة غير الصحي، سيرفع عدد المصابين بارتفاع ضغط الدم، إلى أكثر من مليار ونصف مليار بحلول عام 2025. وهو ما يعني زيادة بأكثر من نصف مليار شخص عن العدد الحالي للمصابين، والذي يقدر بأكثر من 970 مليون شخص. وبالنظر إلى هذا العدد الهائل من المصابين حالياً، وبالأخذ في الاعتبار أن ارتفاع ضغط الدم أحد عوامل الخطر المهمة خلف مرض الشرايين، يمكننا أن ندرك -إلى حد ما- سبب تربع أمراض الشرايين على عرش قائمة أسباب الوفيات البشرية. ولكن لماذا يرتفع ضغط الدم؟ وما سبل خفضه إلى مستوياته الطبيعية؟ إجابة السؤال الأول ليست سهلة كما تبدو للوهلة الأولى، حيث يمكن تحديد سبب مباشر خلف ارتفاع ضغط الدم، مثل أمراض الكليتين، أو الاضطرابات الهرمونية، أو بعض العقاقير الطبية، في 10% فقط من الحالات، بينما تظل 90% من حالات ارتفاع ضغط الدم دون سبب واضح أو محدد. هذه النسبة الكبيرة من الحالات يبذل الأطباء حالياً جهوداً حثيثة، لتحديد العوامل الفسيولوجية أو البيئية أو الغذائية التي تتسبب في رفع ضغط الدم فيها إلى درجة مرضية. وأحد هذه الجهود، أثمرت نتائجه قبل شهور قليلة، من خلال دراسة مهمة أظهرت أن تناول كميات أقل من ملح الطعام، يؤدي إلى خفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين بنسبة 25%، وخفض الوفيات الناتجة عنها بمقدار 20%، أي بمقدار واحدة من كل خمس وفيات. وهذا التأثير الهائل على احتمالات الإصابة والوفاة من أمراض القلب والشرايين، يتأتى فقط من مجرد خفض المتناول يومياً من ملح الطعام بمقدار ثلاثة جرامات، أو ما يعادل نصف ملعقة شاي. وتأتي هذه النتيجة المذهلة لتؤكد الحقيقة المعروفة بأن زيادة الملح في الطعام، تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية وبالسكتة الدماغية. وما أضافته هذه الدراسة، أنها قدمت الدليل الدامغ، وبشكل حسابي دقيق، يظهر العلاقة بين كمية الملح في الطعام وبين أمراض القلب والشرايين. وبخلاف خفض كميات الملح في الطعام، نجد أن معظم النصائح المتعلقة بسبل الوقاية من ارتفاع ضغط الدم، تؤدي أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى الوقاية من أمراض الشرايين بوجه عام، مثل الامتناع عن التدخين، والحفاظ على وزن مناسب للجسم، وممارسة التمارين الرياضية بشكل منتظم، وخفض مقدار التوتر في الحياة اليومية، والإقلال من كمية الدهون في الطعام. أما على صعيد العلاج، فتأتي المفارقة من أنه على رغم توفر أنواع كثيرة، وزهيدة الثمن، من العقاقير القادرة على خفض ضغط الدم، إلا أنه نادراً ما ينجح الأطباء في الوصول بالمريض إلى المستويات الطبيعية. ويعود السبب في ذلك، إلى عدم التزام المرضى بتناول دوائهم بشكل منتظم ومستمر، بعد أن يكتشفوا عودة ضغطهم للمستويات الطبيعية، بعد أسابيع أو أشهر من العلاج. فعلى رغم أن ارتفاع ضغط الدم مرض يمكن التحكم فيه، إلا أنه مرض لا يمكن علاجه والتخلص منه نهائياً، وهو ما يتطلب تعاطي العلاج الموصوف مدى الحياة.