لقد كانت المقالتان السابقتان تحاولان تقديم صورةٍ عن عددٍ من المفاهيم الرئيسية التي نستطيع من خلالها إدراك المنطقة القيمية والمفاهيمية والواقعية التي سيتحرّك فيها البحث، فتمّ تحديد مفهوم القيم والبداوة كلاً على حدةٍ، كما تمّ تناول "القيم البدوية" كمفهوم منتشر لدى البدو والحضر على حدٍّ سواء، وعرّج البحث على علاقة القيم البدوية بالديانتين الإسلام والمسيحية، وسنتطرّق في هذا المقال لقراءة علاقة القيم البدويّة بالولاء للوطن وخاصّة في سياق نموذج المجتمع السعودي. لقد كان للإدراك الفطري للملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، لكثير من الحقائق التي مرّت معنا في المقالين السابقين أثرٌ ظاهرٌ في استحداثه لسياسة هامة في عصره، هي سياسة "التوطين" ومحاولة ربط القبائل البدوية بالمكان والوطن من خلال هذه السياسة التي عرفت بـ"الهجر"، والتوطين هو "مجموع العمليات أو البرامج التي تتيح للجماعة البدوية الاستقرار أو التوطّن في نطاق مكاني معين، سواء ضمن أو بعيداً عن مناطقها المعروفة، وفي إطار قيمها ونظمها واحتياجاتها الأساسية ورغباتها وأنماط سلوكها" وفقاً لكتاب علم الاجتماع البدوي صـ225. لقد كان هدف التهجير نقل الولاء من القبيلة إلى الدولة والوطن، وقد وقع هذا في العصور المتقدمة من التاريخ الإسلامي، وكما يذكر ابن خلدون فقد "وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المَوَاطِن فيقال جند قنسرين، جند دمشق، جند العواصم.. فدثرت العصبية... وبقي ذلك في البدو"، مقدمة ابن خلدون صـ130. إن القيم البدوية في جانبها السلبي لها دور حساس في إضعاف الولاء الوطني، عن طريق نقله إلى الولاء القبلي، أو على الأقل جعل الولاء للوطن تابعاً للولاء للقبيلة، ذلك أن "القبيلة تأتي في موقع أسمى من المدينة"، بحسب المفكر السعودي عبدالله الغذّامي في كتابه النقد الثقافي صـ133، أما المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فيرى "إن الجماعات البشرية المنظمة- القبيلة، الحزب، المذهب، الطائفة، الأمة- لها لا شعور نوعي خاص بها"، كما أن "النعرة القبلية والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على مغانم ومصالح، ظواهر تبقى نشطة أو كامنة في كيان الجماعات" العقل السياسي العربي صـ12، وذلك لأن "القبيلة" كما يرى المفكر المغربي عبدالله العروي هي "اسم يطلق على تنظيمة وعلى مضمون اجتماعي وعلى دور سياسي" "ثقافتنا في ضوء التاريخ صـ44"، فهي بالتالي منظومة تحمل قيماً أخلاقية ومضموناً اجتماعياً ودوراً سياسياً، وهو ما يوجد أيضاً في الوطن والدولة، ومن هنا ينشأ النزاع بين الولاءين. إن المؤثر الموغل في التاريخ والذي أدى لهذه الإشكالية هو أن الأرض في التراث العربي كانت تعبر عن القسوة بالنسبة للإنسان العربي، حيث الصحراء قاحلة مجدبة قاسية، لا يحتمي منها إلا بالقبيلة، ولهذا يقول الأعرابي قديماً: كأنما الأرض عني غير راضية / فليس لي وطن فيها ولا وطر ويعلق المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري على هذا بقوله: "نعم، لم ترض عنه الأرض ولم تمكنه من وطن، فلجأ إلى رضا القبيلة واتخذها وطناً، تلك هي المسألة، وتلك هي المعضلة والمصيبة إلى يومنا هذا رغم انصرام قرون عديدة على استقرار معظم العرب وتحضرهم وعدم اضطرارهم الترحل"، ثم عاد ليؤكد أن السبب في ذلك يعود إلى "سلّم القيم النابع من ضرورة تقديم سلامة الكيان الجماعي المتنقل، الذي هو وحده الكيان المأمون والمضمون على سلامة أي أرض ثابتة، ومن هنا تأتي أولوية (الجماعة) في مفهوم الكيان العام عبر تاريخ العرب والمسلمين على أولوية (الإقليم الأرضي) القابل للتعديل وحتى التغيير إلى يومنا هذا". ثم يعلّق الأنصاري على هذا بأنه "بعد ثمانية قرون من عمر الحضارة الإسلامية وانتشار الإسلام وجد ابن خلدون في دراسته للتاريخ أن "العصبية القبلية" ما زالت تمثل الركن الثاني مع "الدعوة الدينية" في كل حركة جديدة للإصلاح وتأسيس الدول، "التأزّم السياسي عند العرب صـ85-88"، وبناء على ما تقدّم فإن "الجمهور ما زال يفسّر ثورات الخوارج والروافض والقرامطة وأمثالهم ممن رفضوا الخضوع للقوانين الاصطلاحية والأوامر السلطانية برسوخهم في البداوة"، كما جاء في كتاب مفهوم الحرية صـ18، ولا غرابة إذاً في أن الخوارج -كما يذكر المفكر المصري أحمد أمين- "كانت تغلب على أكثرهم البداوة.. وكان المذهب الخارجي مصبوغاً إلى درجة كبيرة بالصبغة البدوية في محاسنها ومساوئها، فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، كثيرو التفرق شيعاً وأحزاباً، محدودو النظر، ضيّقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم"، "ضحى الإسلام 3/332". ثم يعرض الأنصاري خلاصة فكرته في أن "القبيلة كانت -وما تزال- عامل التأسيس والهدم -في الوقت ذاته- بالنسبة للدولة، فهي بذرة الحياة لها وجرثومة موتها في آنٍ معاً على قاعدتها تتأسس وتقوم، ومعها أو بها تسقط" التأزم السياسي عند العرب صـ91. وبصدق فقد كانت القيم البدوية -على طول التاريخ العربي والإسلامي- حاضرة في بداية كل ثورة، وجندياً يقف في مقدمة صفوفها، والتاريخ لا يشهد بذلك فحسب بل تصرخ به صفحاته صراخاً. بناءً على ما تقدم، فإن ما يلفت انتباه الباحث أن ظواهر العنف في السعودية منذ قيام الدولة السعودية الثالثة، قد تجلت في ثلاث ظواهر عنفية مقلقة، كانت أولاها مع "اخوان السبله"، وثانيتها مع "حركة جهيمان العتيبي" وثالثتها مع "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، ولا تخطئ عين المراقب أن الظواهر الثلاث كانت تجتمع فيها"القيم البدوية" و"الدعوة الدينية" التي تحدث عنها ابن خلدون والأنصاري وغيرهما سابقاً، وما نحن بصدد إثباته هنا هو التصاق هذه الظواهر الثلاث بـ"القيم البدوية" التي يساهم الجزء السيئ منها في بروز ظواهر العنف. أما حركة إخوان السبله فالتصاقها بقيم البداوة لا يحتاج لمزيد جهد لإثباته، فقادتها وأفرادها "أصلهم بدو"، كما جاء في رسالة للشيخ عبدالله العنقري في كتاب لسراة الليل هتف الصباح صـ321، تشربوا قيم البداوة وانغرست فيهم بشكل كبير، ثم دخلت عليها الدعوة الدينية فهذبت بعض هذه القيم، كما "شرعنت" البعض الآخر وبقي الكثير منها راسخاً في القلوب ومتحكماً في الأعمال. أما "الجماعة السلفيّة المحتسبة" أو حركة جهيمان العتيبي، فقد كان قوامها الأساس من الأفراد البدو أيضاً، وقد كانوا يتناقلون بينهم القيم البدوية بعد إلباسها اللبوس الشرعي وأحياناً من دونه، وقد كان جهيمان العتيبي يكتب الشعر الشعبي الذي يتضمن بعض القيم البدوية. وجهيمان العتيبي يتحدث عن واقع "الاخوان" ويقصد بهم أتباعه وأنصاره مستخدماً الشعر المحمّل بكثيرٍ من القيم البدوية المغلفة بالمعاني الدينية وهو الاختلاط الدائم بين "القيم البدوية" و"الدعوة الدينية" الذي تحدثنا عنه سابقاً على طول التاريخ الإسلامي ودوره في إشعال الثورات. يقول جهيمان في رسالته المسماة "الموقف الصحيح في بيان الحق الصريح": "يارب ثبتنا بعد حادث صار : نقول بالحجه بغير ارتعاشي ويارب تنصرنا على حزب الاشرار : اللي تحزبهم من اجل المعاشي تشبهوا بالكفر في كل الأقطار: ويبغوا رجال الدين مثل الكباشي قوم ترى ترك الوظايف من العار : ولا ينكر المنكر إذا مر ماشي لا بد والله نبدل الدار بالدار : وقدامنا جعفر نقل للنجاشي ومن بعدها لا بد لنا نشعل النار : ما تظهر السنة طيور الخشاشي إلا الذي دايم على الدين صبّار: واذا غضب يغدي لوجهه تواشي وعلى عدو الدين صاطي وجبّار : وان شاف حزب الحق يبدي البشاشي ثم بعدها عودوا على حية الدار : وراس النفاق يداس من بعد طاشي ثم بعدها سيروا على دولة الجار : بجيل على السنة لمولاه ناشي ما قنّعوا عن منهج الحق باستار : ولا تعّبوا لاهل المذاهب فراشي"، كما جاء في رسائل جهيمان العتيبي صـ195. وتتجلى القيم الدينية الممزوجة بالقيم البدوية في هذه القصيدة، في أن الحامل للقيم الدينية والبدوية التي أراد نشرها هو "الشعر الشعبي" وهو أحد أهمّ الحوامل للقيم البدوية في جوانبها الإيجابية والسلبية، وتأففه من أن يكون رجال الدين "مثل الكباشي" أي النعاج وغير ذلك من المعاني التي تشي بتشبعه بالقيم البدوية في جانبها السلبي. وسيكون علينا في المقال القادم رصد أهم المظاهر التي تثبت انتعاش القيم البدويّة في جانبها السلبي قبل بروز تنظيم "القاعدة" في جزيرة العرب. يتبع..