مع نهاية العام الجامعي، وفي بداية شهر يوليو، أهجر القاهرة حاملاً ما يطيب لي من الكتب والملفات وأندفع بحكم الميل الغريزي إلى شاطئ البحر الأبيض. أعتقد أن بعض الميول والعادات تكتسب في داخلنا قوة الغريزة، وإلا كيف أفسر هذا الوضع القهري الداخلي الذي يجعل يومي مضيئاً مبهجاً فقط إذا ما ألقيت بدني داخل أمواج البحر هادئة كانت أم هادرة، ناعمة كانت أم خشنة، غير مبال بصافرات حراس الشاطئ ورجال الغوص والإنقاذ التي تنادي على كل من يجازف بدخول البحر بضرورة الخروج طلباً للسلامة من قصف الأمواج العاتية وقوة التيارات التي تسحب الأبدان بقوة وحزم إلى الأعماق. التفسير الوحيد الذي أملكه لهذه المغامرة اليومية الجبرية هو أنني ولدت بجوار شاطئ البحر في بورسعيد وبدأت حبوي على رمال الشاطئ، مفتوناً بحركة الأمواج وساعياً إلى مداعبتها وهو ما تطور مع السنين إلى هواية السباحة والغوص وركوب الموج. أصبح الكابتن رجب رئيس رجال الإنقاذ على شاطئ قرية الدبلوماسي-حيث أصطاف- صديقاً لي، حاول الرجل من خلال الصداقة أن يثنيني عن عادتي اليومية قائلاً: إن الساحل الغربي الشمالي مختلف عن ساحل بورسعيد، فالبحر فيه مفتوح كالمحيط لا تحده حواجز أمواج، ورجاني أن أبقى على الشاطئ والسباحة في حمامات السباحة الهادئة. عندما أصابه اليأس بدأ يتوجه برجائه إلى ضيوفي من الصحفيين والمذيعين وأساتذة الجامعة الذين يعتبرهم الكابتن رجب نجوماً يطلون عليه من الصحف وشاشات التليفزيون. بعضهم من أصول ريفية مصرية، ولذا يكتفون من البحر ببل الأقدام. قالوا للكابتن: لا تقلق فبعض الناس يولد على البحر مثل السمك. لم يقتنع الرجل بإجابتهم وراح يتحين الفرصة لإقناعي بوجهة نظره. في أحد الأيام قال لي الكابتن في مودة: هل تعرف يا دكتور أن البحر غدار؟ قلت له: هذا قول شائع ولكنني أعتقد أن البحر يتسم بالوضوح، فهو يزأر في وجهك إذا كان غاضباً ولا يخفي مشاعره وهو لا يُغرِّر بك فيبدي لك اللطف والود في وجهك، ثم يطعنك في ظهرك، فلماذا تصفونه بأنه غدار إذن؟ أجاب الكابتن رجب وهو مولود مثلي على شاطئ البحر وبالذات في الساحل الغربي الشمالي الثائر معظم الوقت بالأمواج العالية... إننا نقصد أن البحر متقلب يمكن أن يتحول من الهدوء إلى الثورة. قلت: وهل يحدث التحول في لحظة أم يستغرق التحول مراحل تنذرك وتحذرك؟ سقط في يد الكابتن وقال: (والله غلّبتني يا دكتور). في نفس يوم الحديث دخلت إلى البحر، كان ارتفاع الموج على الشاطئ بارتفاع الركبة. انطلقت إلى الداخل حيث التماوج ناعم يحمل البدن ويؤرجحك في لطف وأصوات التماوج تعزف إيقاعاً عذباً في الأذن والموج يصافح بدنك. فجأة بدأ الكابتن رجب يصفر على الشاطئ ويلوح لي بالخروج في انزعاج وحزم، مشيراً إلى عمق البحر. نظرت إلى الداخل فوجدت على البعد موجة لا يقل ارتفاعها عن أربعة أمتار قادمة في اتجاهي. كالعادة قررت أن أواجهها بالغوص تحتها إلى أن تمر. بعد أن مرت وشعرت بالماء يهدأ فوق السطح عدت للطفو، وأنا لا أرى الموجة التالية التي قررت أن تتكسر فوق بدني، شيء مثل أمواج "التسونامي" ضخم الجثة غامق اللون ثقيل الوزن، اتخذ مني شاطئاً يتكسر عليه. سقط على بدني وعلى سطح البحر، فغاص بنا إلى الأعماق التي لا يقل عمقها عن ثلاثة أمتار حتى ارتطمت بالقاع الرملي وكتل المياه تتساقط فوقي تجرجرني يمنة ويسرة. عندما طفوت حذراً بدأت السباحة تجاه الشاطئ في إعياء عضلي. استقبلني الكابتن قائلاً: صدقتني أن البحر غدار؟ قلت: بل مراوغ. في اليوم التالي رجاني الكابتن البقاء على الشاطئ قائلاً: "السن عليه عامل" فبقيت يومين أفكر في رواية العجوز والبحر لـ"همنجواي" حيث خرج الصياد العجوز مهزوماً من قوى البحر.