فشلت إندونيسيا في أن تكون نمراً آسيوياً، ودولة صناعية إسلامية عصرية على غرار بقية الدول الآسيوية التي تقودها اليابان وكوريا الجنوبية، وترددت في جنباتها أصوات العنف والإرهاب في جزيرة "بالي"، ونشطت المنظمات الإندونيسية الطامحة إلى تحويل البلاد.. ربما إلى أفغانستان أو عراق أو صومال أخرى! وجاء اجتماع أنصار "حزب التحرير" الإسلامي فيها لإعادة تأسيس الخلافة تتويجاً لمظاهر قوة "الإسلام السياسي" في هذه الدولة التي تعد أكثر دول العالم الإسلامي سكاناً. وذكرت وكالات الأنباء يوم 13/8/2007 أنه قد تجمع نحو ثمانين ألف شخص في العاصمة الإندونيسية للمشاركة في مؤتمر تستضيفه جماعة "حزب التحرير" الإسلامية الدولية، خصص لبحث موضوع إحياء الخلافة الإسلامية.. ومما يلفت النظر حقاً أن "حزب التحرير" لم يوفق في عقد اجتماعه هذا في عاصمة الدولة العثمانية اسطنبول مثلاً، رغم النجاح الكاسح الذي حققه الإسلاميون الأتراك هناك، ورغم ما يحمل انعقاد مؤتمر كهذا في عاصمة الخلافة السابقة "الأستانة" من دلالات. ولكن من المستبعد أن يتحمس الإسلاميون الأتراك، الذين يصفهم الأستاذ عبدالرحمن الراشد بأنهم ليبراليون مقارنة بمن عندنا في العالم العربي، لاستقبال حشد خلافي كهذا، بالطبع لأسباب كثيرة. أغتنم هذه المناسبة لأعرض للقراء جانباً قلّما تعرضه الصحافة العربية عن "حزب التحرير" -الذي لم تسلط عليه حتى الآن أضواء إعلامية كافية على وجه العموم- وهذا الجانب يتعلق بتصورات هذا الحزب لنظام الخلافة وشخصية الخليفة وسلطاته. وهي تفاصيل مستقاة من كتاب مؤسس الحزب المتوفى "تقي الدين النبهاني" (1909- 1977) وخليفته "عبدالقديم زلوم"، وعنوانه "نظام الحكم في الإسلام"، وقد صدرت طبعته هذه، وهي الرابعة، في لبنان عام 1996 عن دار الأمة للنشر. والخلافة، كما جاء في هذا المرجع الحزبي المهم، "هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم". وإقامة الخلافة، يقول: "فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم". والتقصير في القيام بهذا الأمر "معصية من أكبر المعاصي، يعذب الله عليها أشد العذاب". ويرى "حزب التحرير" أن "السيادة للشرع والسلطان للأمة". ويدعو إلى تنصيب خليفة واحد لكل العالم الإسلامي، فالحديث النبوي يقول: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما". والخليفة هو الذي ينوب عن الأمة في الحكم والسلطان وفي تنفيذ أحكام الشرع. "ولا يكون من يلي أمر المسلمين خليفة إلا إذا بايعه أهل الحل والعقد في الأمة بيعة انعقاد شرعية، بالرضا والاختيار، وكان جامعاً لشروط انعقاد الخلافة". وبعكس ما جرى في العالم الإسلامي لقرون طويلة، لا يعترف "حزب التحرير" بما يسميه "حكم المتسلط". وعلى هذا، فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة، فإنه لا يصبح بذلك خليفة، ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين... ولو أخذ البيعة على الناس بالإكراه والإجبار". ولكن معارضة "حزب التحرير" لمثل هذا "الانقلاب الخلافي" غير راسخة، لأنه، كما يقول: "إلا أن هذا المتسلط إذا استطاع أن يقنع الناس بأن مصلحة المسلمين في بيعته، وأن إقامة أحكام الشرع تحتم بيعته وقنعوا بذلك، ورضوا، ثم بايعوه عن رضا واختيار، فإنه يصبح خليفة". والثغرة الواضحة هنا أن مثل هذه الخطوة سهلة على من كانت السلطة والدولة والثروة والإعلام بيده! ومن أخطر ما في فكر "حزب التحرير" في هذا المجال الطريقة التي يفرض بها "الخليفة" على سائر أقطار العالم الإسلامي! فقد أسقطت الخلافة الإسلامية في اسطنبول عام 1924، ولهذا فإن كل قطر من الأقطار الإسلامية أهل لأن يبايع خليفة، وتنعقد به الخلافة! ثم يقول: "فإذا بايع قطر ما، من هذه الأقطار الإسلامية خليفة، وانعقدت الخلافة له، فإنه يصبح فرضاً على المسلمين في الأقطار الأخرى الخلافة له ببيعة أهل قُطره، سواء كان هذا القطر كبيراً كمصر، أو تركيا أو إندونيسيا، أم كان صغيراً كالأردن أو تونس أو لبنان". ويشترط في هذا الانعقاد أن لا يكون ذلك القطر خاضعاً لأي دولة كافرة، وأن تكون قواه مستقلة، وأن يباشر الخليفة فوراً بتطبيق أحكام الشريعة، وأن تنطبق عليه شروط الخلافة كالبلوغ والعقل والذكورة وعدم العبودية. ولا مكان للأقليات الدينية ولا حق لها في اختيار هذا الخليفة، مهما كان عددها في البلاد، بما في هذا إندونيسيا نفسها أو مصر والسودان ولبنان! يقول كتاب "حزب التحرير": "ولا حق في البيعة لغير المسلمين، ولا تجب عليهم، لأنها بيعة على الإسلام، وعلى كتاب الله وسُنة رسوله، وهي تقتضي الإيمان بالإسلام، وبالكتاب والسُنة. وغير المسلمين لا يجوز أن يكونوا في الحكم، ولا أن ينتخبوا الحاكم، لأنه لا سبيل لهم على المسلمين، ولأنه لا محل لهم في البيعة". وسيتبين للقارئ مدى غياب الديمقراطية أو حق المواطنة وتجاهل آراء غير المسلمين وميولهم في هذا المنع، إذا عرفنا فيما بعدُ السلطات التي يهيمن عليها "الخليفة"! ولا ينظر "حزب التحرير" إلى خطوة انتخاب الخليفة كعملية ديمقراطية حتى للناخب المسلم! فيقول: "ليس شرطاً أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق، لأنه حق لهم، وهو وإن كان فرضاً عليهم، لأن البيعة فرض، ولكنه فرض على الكفاية، وليس فرض عين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين". ويدعو الحزب إلى إتاحة الفرصة أو تمكين المسلمين من القيام بالعملية وتنصيب الخليفة، ولكن "لا يشترط عدد معين، فيمن يقومون بتنصيب الخليفة، بل أي عدد بايع الخليفة، وتحقق في هذه البيعة رضا المسلمين بسكوتهم، أوبإقبالهم على طاعته بناء على بيعته، أو بأي شيء يدل على رضاهم"، "يكون الخليفة المنصب خليفة للمسلمين جميعاً، ويكون هو الخليفة شرعاً، ولو قام بتنصيبه خمسة أشخاص". وأوضِّح للقارئ كم من المشاكل قد تنشأ من مثل هذه الإجراءات والتعقيدات مما لا داعي للوقوف عندها! وبعكس ما هو معروف ومقروء في هذا المجال، يرى "حزب التحرير" أن "طلب الخلافة والتنازع عليها جائز لجميع المسلمين، وليس من المكروهات... وأما النهي عن طلب الإمارة الوارد في الأحاديث، فهو نهي للضعفاء، أمثال أبي ذر ممن لا يصلحون لها، أما الذين يصلحون للإمارة فإنه يجوز لهم أن يطلبوها". ويجيز "حزب التحرير" في حالة غياب الخلافة، كما هو الآن، "قيام المسلمين أو جماعة منهم، أو أصحاب القوة والمنعة فيهم"، بقيادة الحزب أو ربما العسكر، بالاستيلاء على السلطة في أي قطر إسلامي، وإسقاط الحاكم الذي يحكمهم بأنظمة الكفر وأحكامه "بغية استئناف الحياة الإسلامية، والعودة إلى الحكم بما أنزل الله". ويجوز لهؤلاء الذين قاموا بالاستيلاء على السلطة "أن يرشحوا شخصاً من المسلمين المؤهلين لتولي الحكم والسلطان". وإذا تمت الموافقة عليه من قبل "أهل الحل والعقد"، صار خليفة يبايعه المسلمون في ذلك القطر.. "وبذلك تعود دولة الخلافة إلى الحياة، ويعود تطبيق أحكام الإسلام وأنظمته إلى الوجود، وتتحول الدار في ذلك القطر إلى دار إسلام"! ولا يعترف "حزب التحرير" بنظام تعيين ولي للعهد "لأن السلطان للأمة وليس للخليفة... وما فعله أبوبكر لعمر لم يكن ولاية عهد، بل كان انتخاباً من الأمة في حياة الخليفة، ثم حصلت له البيعة بعد موته... بخلاف ما فعله معاوية من ولاية العهد، فإنه يخالف نظام الإسلام" والذي جعل معاوية يبتدع ولاية العهد، يقول حزب التحرير: "إنه كان يفهم رئاسة الدولة أنها مُلك"، وإنه "كان متأثراً بالنظام الذي كان سائداً في تلك الأيام عند الدولتين البيزنطية والساسانية"، ولأن طريقة اجتهاده في الأمور السياسية كانت "تقوم على أساس المنفعة". ولا يحدد "حزب التحرير" رئاسة الخليفة بمدة محددة ما دام محافظاً على الشرع. ويحرم على المسلمين أن يكون لهم أكثر من خليفة وأكثر من دولة، ولابد للعالم الإسلامي أن يكون كله دولة واحدة وليس "دولة اتحادية"! ولا عبرة بالأوطان والحدود الحالية، فـ"كلمة الوطن إنما يراد بها مكان إقامة الشخص الدائمة، أي بيته وبلده، ولا يراد منها أكثر من ذلك مطلقاً". ويُعزل الخليفة إذا ارتد عن الإسلام، أو حتى جُنّ جنوناً مطبقاً لا يصحو منه، أو وقع أسيراً في يد عدو قاهر. والأمة وإن كانت تملك حق تنصيب الخليفة "إلا أنها لا تملك عزله متى تم عقد البيعة على الوجه الشرعي". والآن، ما هي صلاحيات الخليفة كما يحددها كتاب "حزب التحرير"؟ يقول: "الخليفة هو الدولة، فهو يملك جميع الصلاحيات"! ثم يضيف مفصلاً: هو الذي يجعل الأحكام الشرعية قوانين نافذة، وهو المسؤول عن سياسة الدولة الداخلية والخارجية وقيادة الجيش وحق إعلان الحرب والسلام، وله حق قبول السفراء وتعيين السفراء، وتعيين وعزل الولاة، وكذلك تعيين وعزل قاضي القضاة وقواد الجيش. وهو الذي يقرر فصول ميزانية الدولة. وهكذا، فإن سلطاته شاملة تشبه سلطات الولي الفقيه في الدولة الإيرانية الإسلامية مثلاً! والأمر الآن للإندونيسيين والأتراك والعرب، إن كانوا يفضلون الانتقال من أنظمتهم الحكومية ودولهم الحالية إلى هذا النظام الذي يقترحه "حزب التحرير"، ويحشد له آلاف الإندونيسيين.. وغيرهم!