لابد أن نعترف أن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، هي الفعل الإرهابي الأكثر تأثيراً وأهمية في التاريخ الحديث والمعاصر، لذلك فإن مفهوم العمل الإرهابي في العصر الحالي يختلف كثيراً عن معانيه التاريخية، فلم يعد يقتصر على الاغتيالات لشخصيات سياسية أو حكومية أو اختطاف رهائن وطائرات وعرض قائمة من المطالب، بل لقد تحولت العمليات الإرهابية من كونها أداة في يد الجماعات السياسية والدينية تحاول بها تحقيق أجندتها المستقلة والمتطرفة المختلفة عن الأجندة الحكومية للدولة التي تنتمي إليها، إلى اعتناق مبادئ للدمار وتبني أهداف تتعدى نطاق الداخل، وتتسع لتشمل دولاً عديدة وأهدافاً مختلفة في العالم كله، ولم تعد هذه الجماعات ترتبط بحدود دولة معينة. والسمة العامة اليوم هي استقلال الجماعات الإرهابية عن الارتباط بدولة بعينها، وربما يرجع جزء من ذلك إلى الجهد الجماعي الدولي من أجل تقليص وإنهاء دعم الدول للجماعات الإرهابية والسعي نحو زوال مفهوم "دولة راعية للإرهاب". وقدمت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدليل الأوضح على فك الارتباط بالدول، لكن في الوقت نفسه رسخت هذه الأحداث نوعاً جديداً أكثر خطورة لطبيعة وصورة العمليات الإرهابية. لقد أصبحت الجماعات مكتفية ذاتياً، لا تتأثر بأي حكومة، تقوم بعمليات تحصد أرواح آلاف من الأبرياء، ودخلت هذه الجماعات الإرهابية إلى المسرح العالمي كلاعب جديد فيه. وإذا كان تنظيم "القاعدة" أقرب إلى أن يكون "صناعة أميركية" هدفت إلى مواجهة الغزو السوفييتي، فإننا لا نقول جديداً إذا أكدنا أن السحر في النهاية انقلب على الساحر، وبات تنظيم "القاعدة" ومن يتمسكون بأفكاره ويعملون بأساليبه منتشرين في معظم أنحاء العالم، خاصة أوروبا، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، وربما تكون هناك بعض الخلايا النائمة داخل أميركا نفسها. وعلى الرغم من الحرب الأميركية التي شنتها في أفغانستان ضد "طالبان" وتنظيم "القاعدة"، ومحاولة إرساء نظام حكم جديد، فإن القضاء التام على هذا التنظيم لم يتحقق بعد، فقد استعادت حركة "طالبان" عافيتها واستطاعت بعض خلايا التنظيم العودة لاستئناف نشاطها في القتل والتدمير. وقد دار العديد من الحوارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حول إمكانية أن تكون هذه الأحداث بمنزلة المحرك الرئيسي لحل عدد كبير من المشكلات والقضايا الإقليمية وبؤر الصراع والتوتر المنتشرة في الشرق الأوسط، لكن لم تُبد الولايات المتحدة استعداداً يذكر من أجل المشاركة في مثل هذه القضايا والمشكلات، وركزت جل جهدها على العمل العسكري. وإذا كانت الإدارة الأميركية برئاسة بوش الصغير قد تلقت في حربها ضد الإرهاب مساعدة ومساندة دولية استمرت حتى قرارها المنفرد بشن حرب ضد العراق، فإن الأمر قد تأثر كثيراً فيما بعد لصعوبة الربط بين العراق وتنظيم "القاعدة"، وبين العراق والأنشطة الإرهابية، والإصرار الأميركي على غزو العراق، وبات واضحاً أن العراق ليس الدولة الوحيدة التي تستهدفها الولايات المتحدة، فهناك أيضاً حديث يدور حول سوريا وإيران، وذلك في ظل شعار الحروب الاستباقية. إن التطورات الحالية في العلاقات الدولية بالإضافة إلى التطورات العالمية الاقتصادية المتلاحقة، وأبرزها الاندماجات والتكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية والعولمة وغيرها، تشير إلى أن فرص العمل المنفرد الأميركي تجاه ما تراه وحدها "حرباً ضد الإرهاب"، أمر من غير الممكن تحقيقه، فالهيمنة الأميركية على العالم بأسره لا يمكن أن تتحقق أو تستمر. وقد بدأت معظم دول الاتحاد الأوروبي تأخذ منحى خاصاً بها في التعامل مع قضايا الإرهاب، بل إن روسيا الاتحادية أظهرت تمردها على الإمبراطورية الأميركية في مسألة الدرع الصاروخي وتجميد العمل باتفاقية الأسلحة التقليدية والعمل على إعادة نشر الصواريخ المتطورة بعيدة المدى. لم تؤتِ الحرب ضد الإرهاب ثمارها كاملة في أفغانستان بسبب عدم الاستعداد الكافي لها من ناحية، وعدم نجاح الإدارة الأميركية في إتمام المهمة من ناحية أخرى، كما أن الغزو الأميركي للعراق لا يندرج تحت إطار الاستراتيجية الاستباقية، لأن العراق لم يكن يمثل تهديداً مُلحاً للأمن الأميركي مثل الوضع في أفغانستان. والمتابع للتاريخ يرى أنه عبر 15 عاماً من العمل العسكري لم تستطع القوات الأميركية هزيمة العدو بصورة كاملة سواء كان قوات عسكرية أو شبه عسكرية أو متمردين مسلحين أو عصابات دولية، حيث لا يوجد حصر للخسائر، ولا يوجد استسلام، ولا توجد حشود من أسرى الحرب، ولا توجد أدلة على النصر الساحق. وإذا كان كثيرون تحدثوا عن نجاح الديمقراطية في أفغانستان، فإن الدلائل جميعها تشير إلى أن الوضع هناك لا يزال غير مستقر حتى الآن، ولا يبشر بالخير، في ظل حقيقة تاريخية واضحة بأنه لا يوجد نظام سياسي في العالم يستطيع الصمود أمام شعبه إذا جرى تنصيبه في ظل الاحتلال. أما في العراق فقد استطاعت القوات الأميركية أن تتحرك من الكويت إلى بغداد بسرعة عجيبة وبأقل خسائر في أقل من شهر، ويوم 9 أبريل 2003 أعلن الرئيس الأميركي أن القوات الأميركية قد أتمت مهمة تحرير العراق، ولكن الأحداث تؤكد عكس ذلك، وهناك حاجة إلى إعادة تقييم الموقف الاستراتيجي السياسي والعسكري والعمل على امتلاك المبادأة. لقد أصبح المسؤولون في الإدارة الأميركية والسياسيون الأميركيون لا يعرفون مفهوم النصر سواء من الناحية الكمية أو النوعية، وكل ما يقال حتى الآن أنه تم تحقيق تقدم وتنفيذ المهام، ولكن لم يتساءل أحد: هل تمت هزيمة العدو ودحره؟ أو على الأقل هل هناك فرصة لإنهاء المهمة القتالية؟ وكيف ستحقق ذلك وفق مقاييس النصر أو الهزيمة؟ ووسط هذا الزخم من النقاش بين الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة الأميركية، فإن أحداً لم يتقدم بخطة استراتيجية متكاملة لمراحل الحرب ضد الإرهاب التي قال بعضهم إنها مستمرة لمدة عشرين عاماً، وبعضهم الآخر أكد أنها تحتاج إلى أكثر من ثلاثة عقود. ومن المفارقات أن التحالف الدولي ضد الإرهاب ضم في النهاية كلاً من روسيا والصين والهند والفلبين وإندونيسيا واليمن والسعودية والأردن والإمارات والكويت ومصر، والإمبراطوريات الاستعمارية القديمة لمنطقة الشرق الأوسط، بريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى إسرائيل، ولكن الولايات المتحدة لا تزال تعمل منفردة، وربما لا تهتم برأي دول هذا التحالف. ومن الناحية الاستراتيجية نجد أن القوات العسكرية ذات الحجم الكبير، والتي تقاتل بعيداً عن قواعدها ومناطق تمركزها، تواجه مشكلات إدارية وقيادية في ميدان المعركة، وفي طول خطوط إمدادها مما يعرضها للهجمات ولعمليات حرب العصابات، فضلاً عن صعوبة أن يقاتل جيش منظم ومدرب على أساليب الحرب التقليدية تنظيمات وخلايا إرهابية صغيرة الحجم يسهل عليها الاختفاء، وتقاتل بأسلوب غير نمطي يعتمد على المفاجأة وسرعة الحركة، وهو أمر يفرض إعادة النظر في حجم وتشكيل ونوعية القوات المخصصة لمكافحة الإرهاب. من المفارقات أيضاً أن بعض الدول المعادية للولايات المتحدة استغلت فرصة الحرب الأميركية على الإرهاب للانتقام من أميركا بإحداث أكبر قدر من الخسائر في صفوف القوات الأميركية، سواء في أفغانستان أو العراق، من خلال الحرب بالوكالة، وهناك دول أخرى مثل إسرائيل وجدتها فرصة لتصفية حساباتها بالقوة مع قوى المقاومة في الداخل وتعاملت مع عناصرها كإرهابيين لتتخلص منهم، بل وطلبت إسرائيل مساعدة أميركا لتحقيق ذلك. ربما تكون الحرب الأميركية ضد الإرهاب في حاجة إلى "صُناع سياسة" أكثر من "صُناع حرب"، لأن التعامل مع الإرهاب يحتاج إلى الحد من انضمام أعضاء جدد إلى التنظيمات الإرهابية يضمن لها تعويض خسائرها وهذا الأمر يحتاج إلى علاج البيئة التي تفرز هؤلاء الأعضاء، ومن أهم مرتكزات هذا العلاج أن تعيد أميركا النظر في سياستها تجاه إسرائيل، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، والتخلي عن الغطرسة والغرور والثقة الزائدة بالنفس، وإلا فإن الحرب على الإرهاب لن تؤتي ثمارها حتى بعد قرن من الزمن.