يصر الأميركيون والإيرانيون على تبادُل اللَّطَمات في الإعلام. بيد أن الوقائع على الأرض تتجاوز التصريحات التي تُهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور. وهكذا فلدينا في "منطقة الشرق الأوسط" الصغيرة حتى الآن، خليطٌ من هذا وذاك وفي العراق وفلسطين ولبنان. في العراق تزداد المذابحُ هَولاً، وفي فلسطين يسقط الضحايا إمّا بالغارات والهجمات الإسرائيلية أو بالاشتباكات بين "حماس" وبقايا خصومها. وفي لبنان تستمر أحداث مخيم نهر البارد منذ حوالي الثلاثة أشهر، وفي حربٍ سجالٍ بين الجيش ومسلَّحي شاكر العبسي (=فتح الإسلام). بيد أنّ الأيام الأخيرة شهدت عدة أمورٍ أخرى ذات دلالة على ما سيجري في الأسابيع القادمة. ففي العراق،عاد الفُرقاء الأساسيون الذين جاءوا مع الغزو الأميركي (الحزبان الكرديان، و"المجلس الأعلى" و"حزب الدعوة") للانفراد بالحكومة بعد أن فشلت اللقاءات التي نظّمها الرئيس طالباني مع سائر الأطراف. وبذلك يخرج من الحكومة كلُّ السُّنّة العرب تقريباً، ووزراء إياد علاّوي (وهو من رُفقاء الغزو)، ووزراء مقتدى الصدر و"حزب الفضيلة". وليس من المتوقَّع أن يعمد الخارجون إلى تشكيل حكومةٍ أُخرى شأن ما حدث في فلسطين. لكنّ معنى ما حدث أنّ الصراع على الأمن والسلطة والموارد، سيتجلَّى من الآن فصاعداً في العمل السياسي، والتصريحات والتصرفات السياسية أيضاً. والمُحيِّر في الأمر أنّ الأميركيين ظلُّوا يُصرُّون منذ أشهُر على إحداث توازُن أكبر في العملية السياسية مع الاستمرار في دعم حكومة المالكي التي ثار عليها كثيرون من الشيعة والسُّنة. وما جرى يعني خِلافَ ذلك؛ مع أنه لا يُتصوَّرُ أن يكونَ هناك تنسيقٌ في هذه الخُطْوة بين الأميركيين والأكراد على الخصوص. فأين هم الأميركيون من هذه الخطوة، وأين هُمُ الإيرانيون، ولماذا ما أمكنت استعادةُ السُّنّة وحزب الفضيلة وعلاّوي إن لم يكن إرجاع مقتدى الصدر إلى الحكومة ممكناً بسبب تصاعُد المواجهة بينه وبين الأميركيين؟ كلُّ تلك أسئلةٌ ستُجيبُ عليها الأيامُ المقبلةُ، وسط المذابح والنيران. والحدثُ الآخَرُ ذو الدلالة خطابُ السيد حسن نصرالله زعيم "حزب الله" يوم 14/8 في ذكرى مرور عام على حرب تموز 2006. فاللافتُ أنه كان تصالُحياً تُجاه اللبنانيين المختلفين معه على غير عادته، واللافتُ أنه ما هاجم العرب ولا عَرَّضَ بهم بل شهد لبعضهم بحُسن السلوك. بيد أنّ اللافتَ أيضاً حديثه الطويل عن الحرب المقبلة وليس الماضية. ولا أعني بذلك حديثه عن الصواريخ والمفاجآت الممكنة فحسْب؛ بل وإنذار إسرائيل إن اعتدت على لبنان أو "حزب الله" بأنها ستخسر أكثر مما خسرتْ في حرب تموز. فالسيد يتوقَّع حرباً قريبةً فيها إسرائيل وفيها "حزب الله". وهذه الأجواءُ الحربية ينشرها الإعلامان الإسرائيلي والسوري أيضاً منذ أكثر من ثلاثة أشهر. لكنْ في الأيام القليلة الماضية تزايد اتّساعُ رُقْعة التصريحات والاجتماعات بشأن النزاع المقبل بين الدولتين. فبعد اجتماعٍ بشمال فلسطين المحتلة حضره رئيس الوزراء أولمرت إلى القيادة العسكرية، أَعلن أولمرت أنّ إسرائيل لا تنوي مُهاجمة سوريا. وردَّ السوريون أنهم لن يبدأوا الحرب، لكنهم على استعدادٍ للمواجهة إنْ هاجمَتْهم إسرائيل! وعشية كتابة هذه المقالة ردَّ مصدرٌ سعوديٌّ بعنفٍ على كلامٍ لمسؤولين سوريين على رأسهم نائب الرئيس فاروق الشرع، ومن بينهم وزير الخارجية السوري وليد المعلّم. وكان بعض أتباع سوريا في لبنان قد بدأوا بمهاجمة المملكة العربية السعودية على أثر عودة السفير السعودي عبدالعزيز الخوجة إلى بيروت في محاولةٍ جديدةٍ للتوسُّط بين الأطراف. وقد بدا الهجومُ غريباً بعض الشيء؛ لأنَّ السفير السعوديَّ انطلق في محاولته المستجدة من تشاوُرٍ مع الرئيس بري، وعلى أثر اتصالٍ إيرانيٍ من جانب الرئيس نجاد بالعاهل السعودي. وقد بدا لأول وهلة كأنما السوريون وحدهم (وليس "حزب الله" و"حركة أمل") هم الذين لا يريدون حلَّ الأزمة، ولا يقبلون الوساطة السعودية فيها. بيد أنّ تصريحات نائب الرئيس السوري فاروق الشرع عن "الشلل" السعودي وردّ السعوديين العنيف عليه، واتهامه واتهام السياسة السورية بأنها وراء الفتنة والاضطراب في فلسطين ولبنان ومشكلات عربية أُخرى؛ كلُّ ذلك يُشعر بتزايد الاستقطابات والاصطفافات في المنطقة، بحيث يسهُلُ التوقُّعُ أننا مُقْبلون على المزيد من اللااستقرار في بؤر التوتر المذكورة؛ فضلاً عن إمكانيات الحرب الشاملة، التي تُشاركُ فيها عدةُ أطرافٍ إقليمية ودولية. يشعر الأميركيون بالفشل الشديد في العراق، وفي الوقت نفسه التصميم على عدم الانسحاب مهزومين خوفاً من التداعيات الفظيعة على هيبتهم ومصالحهم. ويشعر الإيرانيون بالضيق الشديد لأنَّ أحداً لا يريد الموافقة ولا التنازُل لهم في المسألة النووية. وذلك فضلاً عن الكُلْفة الباهظة التي تتسبَّبُ بها المواجهة الطويلة مع الولايات المتحدة على استقرارهم واقتصادهم. ثم إنّ سرورَهُم للفشل الأميركي بالعراق ليس خالصاً. إذ اتّضح أنّ الأكثرية الشيعية بالعراق لا تستطيع السيطرة ولا الحكم رغم تمتعها بدعم الولايات المتحدة وإيران معاً في السنوات الثلاث الأولى بعد الغزو. وبذلك فبدلاً من أن يكون حكم الشيعة بالعراق من جانب الأحزاب الموالية لإيران، ميزةً استراتيجيةً لها، يوشكُ العراقُ أن يتحول إلى شوكةٍ في خاصرة الاستقرار الإيراني في حضور الأميركيين وبعد غيابهم أو انسحابهم. أما السوريون، والذين فتحوا جبهةً مع لبنان بعد انسحابهم منه في ربيع عام 2005، فلديهم جبهةٌ مُماثلةٌ فتحوها أيضاً على حدودهم مع العراق. وتوشكُ المحكمة الدوليةُ في اغتيال الرئيس الحريري أن تزيد من عزلتهم العربية والدولية. ولذلك فهم شديدو الضيق، وهم ينسبون كلَّ هذه المصائب التي نزلت وتنزل إلى الإعراض الأميركي عنهم بعد ثلاثة عقودٍ من الإقبال، وإلى تجاهُل السعوديين لضرورات النظام السوري وأمنه ودوره. ولا يقلُّ الإسرائيليون ضيقاً عن السوريين. فلديهم الآن حكومة ضعيفة، وعدوّان لَدودان في غزة ولبنان؛ فضلاً عن ضياع هيبة الردع الإسرائيلي في حرب تموز. وهكذا هناك أربعة أطرافٍ شديدة الانزعاج من الوضع الراهن: الأميركيون والإيرانيون والسوريون والإسرائيليون. والجميع يطمحون للتغيير ويعملون على حدوثه وإن اختلفت الدوافعُ والأسبابُ طبعاً. ولذلك يبدو كأنما تسعى الأطرافُ كلُّها إلى الحرب، وإن يكن الإسرائيليون الأقلَّ حماساً هذه المرة. إذ في الماضي كانت حروبهم أقلَّ كلفةً وأوسَعَ نتائج وأكثر تأكيداً لتفوقهم. أمّا اليوم فهناك الحقائق المتجلية في وجود 3.5 مليون فلسطيني في الضفة وغزة، وهؤلاء لا يمكن إلغاؤهم. وكذلك الأَمرُ مع "حزب الله"، الذي صمد في وجه الجيش الإسرائيلي، وتعذَّر نزْعُ سلاحه، ويحتاج السلامُ معه إلى تفاوُضٍ مع إيران وعَبْرَ الولايات المتحدة! أمّا الجهاتُ المحليةُ العربية، والتي يشيعُ التوتُّرُ في بلدانها في العراق وفلسطين ولبنان؛ فإنها منقسمةٌ بين الأطراف الأربعة، ولا تستطيعُ التوصُّل إلى وفاقاتٍ أو إجماعاتٍ داخليةٍ لكفّ الأذى أو تجنُّبه. ولذا يبدو كأنما هي تنتظرُ اندلاعَ النزاع الشامل للمشاركة فيه بقدر طاقتها للحدّ من الخسائر أو لجني بعض الفوائد. ولا حول ولا قوة إلا بالله.