يقول السيد "جورج تينيت"، وهو أبرز الذين استلموا مسؤوليات أمنية في أميركا ولعبوا دوراً محورياً في متابعة عدد من القضايا والمهمات والأحداث: إنه في أوائل مايو 1999 وعشية مغادرته إلى لندن لحضور أحد المؤتمرات المنتظرة مع نظرائه في الكومنولث البريطاني، اتصل به مساعده "مايكل مورل" في منتصف الليل ليقول له: (تلقيت اتصالاً من مركز الـ"سي. آي. إيه"، بعد تلقيه مكالمة من الجنرال "ويسلي كلارك" قائد القوات الأميركية في البلقان يسأل: "لماذا طلبت مني الـ"سي. آي. إيه" قصف السفارة الصينية في بلجراد"؟ ويضيف: "بيّن التدقيق فعلاً أن طائرة أميركية قصفت سفارة الصين". مضت بضع ساعات ونحن نعتقد أنها مسألة قنبلة زائفة أو صاروخ انحرف عن هدفه المقصود، وهذا أمر مأساوي وهو من الأمور التي تحدث في الحرب. كنت على متن الطائرة إلى لندن عندما بدأت تردنا معلومات بأن قاذفات سلاح الجو ضربت ما صوبت عليه بالضبط، وأنها استخدمت بالفعل بيانات استهداف مقدمة من الـ"سي. آي. إيه". كان مسؤولون مغفلون في البنتاجون يسارعون بالفعل إلى تبرئة وزارتهم من الملامة، ويؤكدون للإعلام أن الخطأ يرجع الى استخدام الـ"سي. آي. إيه" خرائط خاطئة!). (ومن ضمن الأهداف التي قدمت للضرب والتدمير مديرية الإمداد والمشتريات اليوغوسلافية الاتحادية، وهي مستودع عسكري يعنى بشحن أجزاء من الصواريخ إلى "بلدان مارقة مثل ليبيا والعراق". وما يؤسف له هو أن المستودع كان موقعاً بصورة خاطئة على خرائط معدة لتحديد المواقع المراد ضربها. وقد أعطينا في الواقع إحداثيات السفارة الصينية... وهذا ما حصل). هكذا ضربت السفارة الصينية في بلجراد. وهذه هي المخابرات المركزية الأميركية التي تخطئ وتتورط وتورط معها الناس والبلاد، وهكذا ترتكب الحماقات ويدفع ثمنها أبرياء وتعرض أميركا نفسها للسخرية كما للانتقاد. إذ يضيف السيد تينيت: "في الأيام التي سبقت بداية حرب العراق مباشرة في مارس 2003 جاءني أحد الضباط الكبار في مديرية العمليات وقال باسماً: "لن تصدق ما سأقول يا ريس. لقد تلقينا للتو رسالة سرية عاجلة من جهاز الاستخبارات الصيني، وتوقف قليلاً لإحداث تأثير بعد أن استرعى انتباهي. سألت: ماذا قالوا؟ قال: لقد أرسلوا إلينا الإحداثيات الجغرافية للسفارة في بغداد وقالوا: إنهم يأملون أن تدرج بدقة في كل قواعد بيانات البنتاجون". والواضح أن في ذلك شماتة واستهزاء بالمؤسسات الأميركية التي يتوهم كثيرون أن حاسوبها لا يخطئ، لكن الواقع يبين أن حسابات الإدارة الأم الموجهة لهذه المؤسسات تخطئ وتخطئ كثيراً وكذلك حواسيبها تخطئ أيضاً! لقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة وفي أكثر من موقع. في مطاردة بن لادن ونائبه الظواهري تم تبرير عدة علميات حصدت العشرات والمئات من الجرحى والقتلى المدنيين، بأن معلومات مؤكدة أفادت عن وجودهما أو وجود أحدهما في المكان الذي استهدفه القصف. وكانت المعلومات خاطئة. من يتحمل المسؤولية؟ كيف يعيش بن لادن وأين؟ كيف يتنقل؟ كيف يعطي الأوامر؟ كيف يسجل الأحاديث ويرسلها إلى محطات إعلامية فضائية؟ أين أجهزة الاستخبارات الأميركية؟ أين المعلومات؟ أين الرصد؟ أين العلاقات؟ أين التكنولوجيا؟ أين الأقمار الصناعية؟ وماذا تفعل أجهزة المخابرات عندما تشاهد على شاشات التلفزة مثل عموم الناس صور وأحاديث بن لادن أوالظواهري، أو قوافل المقاتلين من "طالبان" في الجبال والأودية مع كل أنواع الأسلحة؟ إنها أسئلة تثير الحيرة والقلق وتطرح أكثر من علامة استفهام حول السياسة الأميركية. لكن الثابت فيما هو ظاهر ومعلوم أن اسم أميركا وهيبتها ورهبتها أكبر بكثير من الوقع! لقد تحدث "جورج تينيت" في مذكراته "في قلب العاصفة" عن أشياء كثيرة. وأشار إلى أخطاء كثيرة وكبيرة ومشابهة لما جرى في بلجراد وأفغانستان وباكستان والعراق. وعن العراق قال أشياء خطيرة ودقيقة من موقع المسؤول المتابع لكل شيء هناك. تحدث عن عدم وجود تخطيط قبل الغزو لا للحرب ولا لإعادة الإعمار. وعن اقتناع من كانوا وراء الحرب بأن المنفيين العراقيين الذين يقول البعض عنهم: إنهم غير قادرين على إضفاء شرعية على أنفسهم، فهذا ليس ضرورياً في نظره، لأننا كما يقول "تينيت" نقلاً عن "دوجلاس فيث": "بامكاننا إضفاء شرعية عليهم من خلال مساعدتنا الاقتصادية والحكم الصالح الذي توفره الولايات المتحدة...."، لكن "تينيت" يقول: لم يكن هؤلاء يدركون أن السيطرة تعتمد أصلاً وجوهرياً على موافقة المحكومين. وأشار تينيت إلى أن كبار المسؤولين في "البنتاجون" أرادوا استحضار المقارنة مع الغزو السوفييتي لأفغانستان عندما خلعت القوات الروسية الحكومة القائمة ونصبت مكانها "بابراك كارمال" الذي أحضروه معهم من موسكو، وهكذا فعلوا في العراق مع أحمد الجلبي وغيره. هذا هو مستوى التفكير الذي قاد هذه العملية في العراق، بني كل شيء على منطق القوة، واستنساخ الحروب والحلول، وعلى الأوهام بالقدرة على التحكم في كل شيء وأينما كان! وكانت الكارثة. ومما قاله تينيت أيضاً: "واصل المسؤولون الأميركيون البحث عن "محمد جفرسون" لإطلاق الديمقراطية الجفرسونية في العراق، متناسين أن صدام حسين قتل منذ مدة طويلة كل من ينطبق عليه الوصف بدقة. وأضاف: "كان الافتراض الذي تعمل الحكومة الأميركية بموجبه أن الأمر سيكون مثل احتلال ألمانيا. بلد منبطح تحت أقدامنا ونستطيع أن نعيد تشكيله بالطريقة التي نختارها. وكانت الولايات المتحدة ستقضي تماماً على حزب البعث، وفي رأي وولفويتز وآخرين: "بامكانك أن تستبدل كلمة بعثي بكلمة نازي. وسرعان ما تبين لنا وللعراقيين بوضوح أن هدف الغزو الأميركي هو أساساً إعادة تشكيل مجتمعهم"! وبعد التجربة والتخبط والفشل، وتغيير مسؤولين واستبدالهم بآخرين واعتقاد الأميركيين بأن الأمور ستتحسن. تبين كما يقول تينيت: "المكان يُدار كحلقة دراسة جامعية. لا أحد منهم يتحدث منهم العربية. ولم يزر أي منهم سابقاً بلداً عربياً. ولا أحد يتخذ القرارات سوى بريمر". وهو أصلاً لا يعرف شيئاً أيضاً. وهذه هي نتيجة السياسة الأميركية التي يقدمها أحد أبرز أعمدتها. صحيح أنه ترك العمل، وهو يقول ما رآه وما فعله وما فعله غيره ويحدد الأخطاء والمسؤوليات، وكثيرة هي الأمور التي تطرق إليها وكنا نراها على الأرض ونشير إليها لكن المسؤولين الأميركيين كانوا ينتفضون ضدنا ويكابرون. إن سياسة المكابرة اليوم واستنساخ الحروب والحلول والغرور لا يمكن أن تبني دولاً ومجتمعات وبالتأكيد لا تؤسس لديمقراطيات ولا لشرق أوسط جديد هنا أو لمنطقة جديدة هناك أو لعالم جديد في مكان آخر.... هذه هي النتيجة المنطقية العلمية التي يمكن استخلاصها من التجربة الأميركية وباعترافات تينيت، فهل يتعلم منها خلفه ومَن سيخلف خلفه ومَن ومَن...؟