يشمل الوعي الغربي الأوروبي والأميركي معاً مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع، فيما يتعلق بمعدلات انتشار السحر، فهو في أميركا أكثر منه في أوروبا. ودرجة أثر الإعلام الذي يخلق حقائق وهمية كبديل عن الواقع أكثر مما يكشف عن الواقع نفسه، أكثر في أميركا منها في أوروبا. فأميركا بلد العجائب أكثر منها بلد الحقائق. وأوروبا بلد الوقائع أكثر منها بلد الخيال. ومعرفة الوعي الغربي جزء من معرفة الآخر الذي تعيش الذات في حوار وتفاعل معه، أو في صراع وجدل معه منذ حوالي ثلاثة قرون. بل إنه أصبح جزءاً من الذات عند العلمانيين، نموذجاً للتحديث لكل الشعوب. الغرب هو حصيلة الإنسانية كلها. ويستعملونه في مواجهة الحركات "الأصولية" المدافعة عن الخصوصية، والتي تريد العودة بالتاريخ إلى الوراء. والمناسبة هي "هاري بوتر" هذه الرواية الخيالية التي وصلت إلى الجزء السابع هذا الشهر، وهي لكاتبة بريطانية، بدأت مغمورة، وعرضت الجزء الأول على الناشرين بأجر زهيد. ثم سرعان ما ذاعت الرواية وانتشرت، وأصبحت سباعية حتى الآن، توزع مئات الملايين من النسخ في شتى أرجاء العالم. ويقف القراء بالطوابير عدة أيام للحصول على إيصال دفع ثمن نسخة يتم الحصول عليها فيما بعد مثل طوابير الماء والخبز في العالم الثالث، بما في ذلك مصر، للحصول على الحاجات الأساسية لحياة البشر. فأصبحت ظاهرة إعلامية فريدة تجاوزت شهرة سبمسون القاتل، والطالب الكوري في كلية الهندسة في فرجينيا الذي قتل ما يقرب من ثلاثين طالباً وطالبة في أبريل الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وسلمان رشدي الذي كان كاتباً مغموراً ثم أصبح ظاهرة إعلامية بعد روايته "آيات شيطانية" عندما أصبح أشهر روائي في بريطانيا بعد فتوى قتله من إيران لنيله من الرسول، صلى الله عليه وسلم، والانتفاضة الفلسطينية الأولى في أوجها، والعالم ينظر إليها بإعجاب ودهشة، وعودة الصورة النمطية للوطن العربي والعالم الإسلامي، القهر والكبت والقتل للمفكرين والكُتاب في مقابل ما تنعم به أوروبا من حرية الفكر والتعبير. حدث ذلك في بريطانيا، هذا البلد العريق في العلم والحقائق الموضوعية. ففيه نشأ إسحاق نيوتن وفرانسيس بيكون و"جون ستيوارت مل" وواضعو المنهج التجريبي العلمي الحديث. وفيه أيضاً استند القانون إلى الحالات السابقة والوقائع. وكان انتشارها عبر الأسطول والتوسع البحري عبر المحيطات للالتفاف حول العالم القديم وتأمين خطوط المواصلات البحرية في جبل طارق وقناة السويس وعدن ورأس الرجاء الصالح طريقاً إلى الهند، واقعاً عسكرياً وليس خيالاً علمياً وانتشاراً إعلامياً. وعُرف إعلامها بالدقة والموضوعية وأصبح رمزها BBC. ثم تصبح اليوم مهداً للسحر والإعلام على الطريقة الأميركية. فقد تجاوزت التبعية البريطانية للولايات المتحدة الخيارات السياسية أيضاً إلى وسائل الإعلام الأميركية، وما يسود المجتمع الأميركي من سحر وخرافة وأساطير تبثهما الجماعات الدينية المغلقة واليمين المتطرف و"المحافظون الجدد". بدأت الكاتبة بتدوين قصصها التي كانت ترويها لأطفالها. البعض من قراءاتها والبعض الآخر من خيالها. ثم فكرت في التدوين كتابة لما ترويه شفاهاً، وأدب الأطفال رائج بطبيعته في الغرب. فهو تأليف من القلب والخبرة الذاتية والواقع وليس من مصادر ومراجع ومعاجم وقواميس، وتجارب وقياسات علمية. والكتابة من القلب أفضل من الكتابة الموثقة. الأولى للعامة، والثانية للخاصة. الأولى علمية، والثانية أدبية. والخيال الإنساني في أدب الطفل يفوق الخيال العلمي في أدب الشباب. والكاتبة امرأة. وهو في حد ذاته يفتح لها الأبواب لما للحركة النسائية في الغرب من حظوة ولما للأدب النسائي من أنصار. وهي شقراء بها مسحة من جمال قديم، نموذج المرأة الأوروبية. واستحوذ الكتاب المطبوع على لب القراء بطبعته المُجلَّدة الفاخرة مع صورة الغلاف التي تشد الانتباه، صورة البطل التلميذ البريء الهُمام، القادر على الاستحواذ على العالم بالسحر، وشد انتباه معلميه ومجتمعه، وإشباع حس المغامرة فيهم، والبحث عن المستقبل، والسيطرة على مساره. وكان الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة قد نفر من الكتاب ورموزه، منطق أرسطو، فلك بطليموس، الكتاب المقدس، أقوال آباء الكنيسة، لأنه يمثل سلطة القدماء على إبداع المُحدَثين. توجه العقل مباشرة نحو الطبيعة لتأسيس العلم الطبيعي، ونحو المجتمع لتأسيس العلم الإنساني، دون وساطة النص. ونشأ علم نقد النصوص بوجه عام خاصة النقد التاريخي للتحرر من سلطته. وفي نهاية العصور الحديثة الآن يعود النص ليصبح مركزاً للوعي الأوروبي، النص الديني الآسيوي أو الأفريقي أو النص الشعري أو الروائي أو النص الإسلامي، القرآن والحديث. فازدهرت علوم التأويل، وقراءة النصوص، وعلم النصوص Textology. وأصبحت الرواية أكثر الكتب مبيعاً بعد الإنجيل، كما أصبحت الكتب الإسلامية بعد حوادث سبتمبر 2001 أكثر الكتب مبيعاً على الإطلاق. وجد الوعي الأوروبي في الكتاب المدوَّن نصراً جديداً أو تكئة قوية لاستنهاض ذاته، والعثور على بؤرة جديدة له بعد أن قضت نظريات مثل ما بعد الحداثة والتفكيكية على البؤرة القديمة في بدايات عصر النهضة، العقل والطبيعة. ثم تلقفه الإعلام الذي يصنع الحقائق بطريقة روايتها وتوجيه الخبر والتعامل معه. والإعلام هو صانع الرأي العام والمؤثر في انتخابات الجماهير والموجه لسلوكها في الحياة الخاصة والعامة. فالحقيقة هي كيفية روايتها، وكيفية الرواية قائمة على الأهداف غير المعلنة والتي قد تغطي على الحقيقة ذاتها إلى درجة تزييف الحقائق، وتغييب الوعي، تهميش المركز ومركزة الهامش، كما يحدث في الإعلانات التجارية عندهم والفيديو كليب عندنا. وقد كشف عن ذلك من قبل هربرت ماركيوز في كتابه: "الإنسان ذو البعد الواحد". وملأت أخبار الرواية وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتصدرت عناوين الصحف الرئيسية. وغطت على مآسي العالم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وجرائم، الغرب مع إبراز جرائم العرب في دارفور والصومال. فمازال المركز الأوروبي هو الموجِّه للإعلام العالمي بالعولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، أو بالغزو العسكري المباشر، الشكل القديم. والموضوع هو السحر. وهاري بوتر ساحر قادر على فعل الأعاجيب. فقد تشبَّع الوعي الأوروبي بالعلم والعقل والواقع والمحسوس. وبه الآن شغف شديد للخيال والمعجزة والأسطورة والغيب والخرافة. فقد قضى الغرب بنفسه على مُثل التنوير، وقطع أنفه بيديه. هدم العقل والعلم والإنسان والمساواة والحرية والتقدم لصالح اللاعقل والخبَل والخرافة والآلة والنخبة وسيطرة الأنظمة وشبكات المعلومات. ويبحث عن بطل جديد يحل محل "طرزان" القديم و"رامبو" الأميركي الأول والثاني والثالث. تعلم البطل السحر في المدارس، وليس العلم. وأظهر براعته في السحر، وليس في العلم. ومهد الخيال العلمي السحري للخيال السياسي، للاستيلاء على العالم والهيمنة عليه كما تفعل أنظمة المعلومات والقوى الكبرى الآن. فالوعي الأوروبي مازال قادراً على عمل المعجزات للسيطرة على العالم بعد أن رفض من قبل معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وأعاجيب القديسين. وتنازل عن دفاعه المستميت القديم عن حتمية قوانين الطبيعة. وانتقل من العلم إلى السحر، ومن العقل إلى الأسطورة، ومن النهاية إلى البداية من جديد. هل هذه نهاية حضارة وبداية أخرى؟ هل تمت دورة العوْد الأبدي في مسار الحضارات؟ ما يسعى إليه الغرب من سحر وخرافة وأسطورة وإعلام وتغييب للوعي هو ما نسعى نحن الآن في التخلص منه لصالح العلم والعقل والواقع والتقدم والتاريخ. وما ينقدُه الغرب من مُثل التنوير في القرن الثامن عشر هو ما نستدعيه نحن منذ الطهطاوي مركباً إياها على التراث الاعتزالي ووضعية الشريعة الإسلامية كما حددها الشاطبي. وستسرع دور النشر العربية في ترجمة سباعية هاري بوتر ليس بدافع مضمونها بل من أجل التوزيع والكسب السريع. وتبقى عشرات الكتب العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تجد لها ناشراً إلا إذا دفع المؤلف كلياً أو جزئياً مصاريف الطباعة. الكتابة والقراءة ظاهرتان اجتماعيتان تعبِّران عن ظروف كل حضارة ومسارها في التاريخ. ومن يدري فربما يُخلق "هاري بوتر" عربي، "هاني جوهر"!