من الآن وحتى نهاية العام الجاري، وبالتحديد حتى "المؤتمر" الذي اقترحه الرئيس الأميركي للسلام العربي الإسرائيلي في الخريف القادم، لا أفق سياسي لاستئناف المفاوضات الفلسطينية/الاسرائيلية، حيث يشترط رئيس الوزراء الإسرائيلي عدم بحث أي موضوع سياسي، وأن تكون الإجراءات الأمنية وتفرعاتها هي الموضوع الأوحد المطروح. ومؤتمر "خريف" بوش في حقيقته لا يمثل مسعى أميركياً جاداً لإحلال السلام. فقد قالها بوش نفسه بصورة واضحة، في خطابه في يوليو حين دعا إلى المؤتمر، من أن "أية تسوية مرجعيتها هي ما يتم الاتفاق عليه بين عباس وأولمرت، وأن أي اتفاق يجب أن يأخذ الحقائق السابقة والجديدة في الحسبان"، بمعنى ما أقامته إسرائيل منذ احتلالها 1967 وحتى الآن على الأرض! متجاهلاً المبادرة العربية، اقترح أولمرت على الفلسطينيين التفاوض لإنجاز "اتفاق إعلان مبادئ" جديد يؤجل مرة أخرى قضايا الوضع النهائي، ويدخل في تفاصيل حول الدولة الفلسطينية دون بحث إقامتها، معتبراً أنه يجب في البداية البحث في المسائل التي يكون فيها نسبياً من السهل الوصول إلى اتفاق، مثل طبيعة الدولة ومؤسساتها الرسمية والنظام الاقتصادي والترتيبات الجمركية بينها وبين إسرائيل... بعدها يتقدم الطرفان إلى بحث أكثر حساسية في المبادئ السياسية؛ مثل الحدود وترتيبات العبور! وهذا، في الأصل، هو إعادة إنتاج خطته للانسحاب من الضفة التي أعلنها في بداية عهده حين سعى لدمج غالبية المستعمرات (المستوطنات) في الضفة في تكتلات يأمل أن يضمها إلى داخل الحدود المستقبلية لإسرائيل، رغم إعلانه حينها أن الدولة الفلسطينية ستقام على 90% من أراضي الضفة والقطاع. وهي أيضاً نسخة حدّثها نائبه "حاييم رامون" حيث عرض خطة تتحدث "راهنا" عن انسحاب من 70% من أراضي الضفة، هدفها الأساس جذب دول عربية للمشاركة في اجتماع "خريف" بوش. فهل من الممكن أن يكون الفهم الأميركي والإسرائيلي قد تطور بفعل المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة في المنطقة، وأن إسرائيل أصبحت قادرة على الالتزام بتنفيذ أي اتفاق عتيد؟! تجدر الإشارة إلى أنه رغم إعلان وزيرة الخارجية الأميركية استعداد الإسرائيليين لبحث "القضايا الأساسية" (وليس الوضع النهائي)، فإن الإسرائيليين يدركون مخاوف الفلسطينيين، حيث يعبر "آفي يسسخروف" و"عاموس هرئيل" في مقال مشترك في "هآرتس" عن هذه المخاوف بالقول: "يوجد خلاف داخلي في السلطة بخصوص ما يمكن للإسرائيليين أن يفعلوه، إذ يرى عدد غير قليل من كبار المسؤولين في فتح أن المحادثات السياسية مع حكومة أولمرت بموضوع التسوية الدائمة من شأنها أن تتسبب فقط بالضرر. وبحسب هؤلاء، فأولمرت غير قادر على أن يعطي أكثر مما اقترح إيهود باراك على عرفات في كامب ديفيد 2000، بينما عباس لا يمكنه أن يوافق على أقل مما طرح في حينه. وبزعم أولئك المسؤولين الكبار، فإن المفاوضات مع إسرائيل تشكل ذريعة فلسطينية لعدم نجاح السلطة في إحداث تغيير حقيقي في الضفة". والحال كذلك، من الطبيعي أن يظهر التساؤل التالي: لماذا لم ينتظر أولمرت مؤتمر "خريف" بوش؟! من الواضح أنه يدرك أن المؤتمر سيكون بروتوكولياً فحسب ولن يفضي فعلاً إلى إقرار السلام أو حتى مجرد دفع عملية السلام بين العرب وإسرائيل ولا بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأن الفلسطينيين يدركون أن انقسامهم السائر على خطى الانقسام العربي، طريق معبد لمزيد من التنازلات سيطالبون بتقديمها. من جهة أخرى، وبمعرفتنا بالسياسة الأميركية، من المتوقع أن تسعى واشنطن لاستغلال وضع "حماس" الآن، وهو ما نبّه إليه "دنيس روس" (أحد كبار صانعي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط) في مقالة حديثة في صحيفة "نيو ريبابليك" تتناول سياسة الولايات المتحدة نحو من أسماهم "الأشرار"/ (إيران وسوريا و"حماس" و"حزب الله")، حيث كتب يقول: "وفيما يتعلق بمثال حماس، وهي لاعب غير دولة يسيطر على غزة، لن نستطيع تجاهل أن إعطاء غزة مساعدة يقتضي أن يُدبر أحد ما الأمر مع حماس. لا حاجة لأن نفعل نحن (الولايات المتحدة) ذلك، لكن العزلة الخالصة والفصل يستطيعان الإفضاء إلى كارثة إنسانية. وإذا كنا لا نريد أن تشعر الجماعة الدولية بضرورة عقد صلات طبيعية بحماس، فعلينا أن نصوغ اتفاقاً دولياً حول كيفية معالجة الواقع في غزة، هناك حاجة إلى منع أزمة إنسانية، وقد توجد حاجة للتمكين من تجارة محدودة على الأقل لمنع انهيار اقتصادي، لكن إذا أرادت حماس مساعدة للتطوير أو استثمارات في غزة، فسيكون عليها أن تلعب حسب القواعد الأساسية للعب وإحداها الكف عن مهاجمة إسرائيل. سيكون على حماس أن تتكيف مع العالم لا العكس". من هنا يتخوف الفلسطينيون مما يدار وراء الكواليس بشأن وجود محادثات من تحت الطاولة وما يطرح من إعلان عن مبادئ حول التسوية النهائية، وكأننا سائرون على طريق أوسلو 2. والعمل "من تحت الطاولة"، يؤشر إلى احتمال انتزاع أولمرت تنازلات جديدة لصالح تصور إسرائيل للسلام النهائي مقابل دعم الرئيس الفلسطيني لإنهاء حالة حماس، وهو الرأي الإسرائيلي الذي عبر عنه "بن كاسبيت" في "معاريف" بقوله: "في المسألة السياسية أيضاً يوجد لدى أولمرت استعداد لإعطاء فرصة حقيقية لخطوة في مواجهة أبو مازن وفياض، وهذه فرصة لن تتكرر، كما يقول ومن المحظور تبديدها، إنه يخشى الحديث المباشر حول التسوية الدائمة وإقامة دولة فلسطينية على المدى القصير، ومستعد لبلورة المبادئ العميقة للتسويات النهائية من قبل انعقاد القمة الكبرى في أكتوبر في واشنطن، وأولمرت يقول في المداولات المغلقة: إن على إسرائيل أن تتقدم خطوة للأمام دائماً، وأن يرد الآخرون على خطواتنا، فمن المحظور علينا أن نكون في وضع نرد فيه على الأحداث". إذن، الموافقة على استخدام صيغ عامة في أي اتفاق جديد، لأنه إعادة إنتاج لاتفاق أوسلو. فقد جربنا الحلول الانتقالية/المؤقتة وعرفنا أن إسرائيل لا تنفذها وتخرقها باستمرار، فكيف سيكون الأمر عند "القضايا الأساسية" وليس النهائية؟ والأخطر أن الحديث المتصاعد عن استئناف المفاوضات يتم في الوقت الذي يستمر فيه عدوان قوات الاحتلال بكل أشكاله، و"الاستيطان"، وبناء جدار الفصل العنصري، وتقطيع الأوصال، وتهويد القدس، ويتعمق الانقسام بين الضفة وغزة. فالوضع في فلسطين على درجة من التأزم والتعقيد تستدعي هدوءاً أكبر وممارسة راقية لأعلى درجات الوعي والوطنية. ودعوة أولمرت هي هروب للأمام من استحقاقات العملية السياسية. فهو يستعيض بـ"اتفاق إعلان مبادئ"، سيتحول مع مرور الأيام، إلى مبادئ تحمل بنظر إسرائيل عدة أوجه، وهو ما تجيد الدولة الصهيونية لعبه!